كشمير: لا حل وسطا.. ويجب وقف الانزلاق نحو الحرب

TT

زيارة وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد الى شبه القارة الهندية للمساهمة في وقف الانزلاق نحو الحرب هي واحدة من اكثر المهام تعقيدا يتولاها مسؤول اميركي في السنوات الاخيرة، لان النزاع بين الهند وباكستان يتبلور على عدة مستويات: مشاعر الجانبين تتعدى الحسابات التقليدية للمصالح الذاتية، والجانبان يملكان اسلحة نووية وشبكات اطلاق هددا باستخدامها، كما ان المصالح الهامة للقوى الكبرى طرف في الصراع. وبالرغم من ذلك فلا توجد دولة، ولا حتى القوة العظمى الوحيدة المتبقية في موقف يتيح لها فرض الحل.

ان قضية كشمير هي واحدة من آثار التسويات الناجمة عن انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد كانت شبه القارة الهندية تتمتع بدرجة كبيرة من التلاحم الجغرافي والثقافي والديني ولكن لم يكن فيها اطار سياسي قبل الحكم البريطاني. واحضرت بريطانيا معها بنية سياسية معتمدة على القيم والمؤسسات الغربية السياسية. وهذه القيم اثارت قضية التعايش بين الاسلام والهندوسية في بلد يمثل فيه الهندوس الاغلبية العظمى. وحاولت بريطانيا حل هذه المشكلة عن طريق التقسيم: المناطق ذات الاغلبية الاسلامية (بشكل او آخر) انضمت الى دولة باكستان، بينما اصبحت باقي المناطق الهند الحالية. وتم التوصل الى كل ذلك وسط مذابح بشعة للطرفين. ولكن لا يمكن رسم الحدود بطريقة غامضة، واليوم يوجد في الهند 150 مليون مسلم، مما يجعلها ثاني اكبر دولة اسلامية بعد اندونيسيا. وفي عام 1972 انفصلت باكستان الشرقية بمساعدة ليست بالقليلة من غزو عسكري هندي، وتشكلت دولة بنغلاديش. وتعود الازمة الحالية في كشمير الى فترة التقسيم الدموية. ففي عام 1947 ادى تردد الحكام الهندوسيين للولاية ذات الاغلبية الاسلامية في كشمير الى تدخل من جانب القوات الهندية والباكستانية، وتولت الهند حكم الولاية. وانتهى النزاع، بعدم رضا الطرفين، ولاسيما على طول خط التحكم وترك الجزء الاكبر من السكان واهم منطقة ضمن الجانب الهندي. وفي عام 1948 دعا قرار للامم المتحدة الى اجراء استفتاء لتحديد ارادة السكان. ولم يجر هذا الاستفتاء حتى الان.

وفي نصف القرن التالي، اصبحت قضية كشمير جزءا من نسيج تبرير الدولتين لوجودهما. وبالنسبة لباكستان، ترمز كشمير لمطلبها بحكم هذه الاجزاء من شبه القارة الهندية التي تعيش فيها اغلبية مسلمة. وبالنسبة للهند ـ التي تعيش فيها جالية اسلامية اكبر من عدد سكان باكستان ـ فإن مستقبل كشمير هو اختبار لتلاحمها القومي. ولو تمت الاستجابة للمطالب الباكستانية، فإن المستقبل السياسي لاكثر من 150 مليون مسلم يعيشون في الهند في مهب الريح.

ولا عجب في نشوب ثلاث حروب حول مستقبل كشمير. واصبحت قضية كشمير غير صالحة للتوسط، ولا يوجد حل وسط في الافق وسط العواطف المتأججة. فباكستان تدعو الى توسط اميركا لاضافة ضغوط لمطلبها بتغيير خط التحكم. والهند ترفض اية وساطات، بل واي دور خارجي لانها لن تقبل مبدأ المطالب الباكستانية. ولم تتمكن كل من الولايات المتحدة ولا روسيا ـ او اي مجموعة اخرى من البلاد ـ اكثر من مجرد تحسين الطريق المسدود.

وقد وصلت الامور، مرة اخرى، الى نقطة الغليان لان، ولمدة عقد من الزمان على الاقل، كانت باكستان تؤيد نشاطات حرب عصابات في كشمير بالتساهل مع المتسللين الذين يعبرون خط التحكم، بطريقة دورية، بدعم من اجهزة الاستخبارات الباكستانية. وبما ان خط التحكم يمر عبر مناطق جبلية وعرة العديد منها يزيد ارتفاعها عن عشرة الاف قدم، فقد تم تأسيس معسكرات للدعم لتسهيل عبور الحدود.

ومن المفارقات، فإن هذه الحالة، بالرغم من انها مؤلمة، تسامحت معها الهند ما دامت باكستان معزولة سياسيا. ولعدة عقود من الزمن كانت باكستان خاضعة لحكم مدنيين اساءوا ادارة اقتصادها وماليتها، ومنذ اكتوبر 1999 خضعت لسيطرة حكومة عسكرية غير منتخبة يرأسها الجنرال برويز مشرف. وسعت هذه الحكومات للحفاظ على استمراريتها بقبول الاصوليين المسلمين لها. ولكن هجمات 11 سبتمبر كشفت لمشرف ضعف الموقف الباكستاني. وتغلب على العزلة الدبلوماسية بالتراجع مائة في المائة، فقد تخلى عن طالبان في افغانستان، وانقلب على الاصوليين في بلده وفتح الاراضي الباكستانية امام العمليات العسكرية الاميركية ضد تنظيم «القاعدة». وبينما لاقت هذه الاجراءت ترحيبا واسع النطاق في اميركا، فانها اثارت في الهند احتمالات تحديث باكستان بمساعدات واستثمارات غربية، وجعلها مرتبطة بالولايات المتحدة بعلاقات تعاون، رغم انها مستمرة في دعم الارهاب ضد الهند، وهو ما اعطى الجرح المفتوح في كشمير طابعا شبه قاري، ولوح باحتمال تحول باكستان الى شوكة دائمة في جانب الهند. واعطى الهجوم الارهابي في 13 ديسمبر 2001 على البرلمان الهندي مبررا للهند لفرض تسوية لقضية كشمير، وربما تحدي باكستان ذاتها، نهائيا.

ان اغراء تحويل قضية الارهاب العالمي ضد باكستان والحد من قدرتها على الظهور بمظهر الرمز بالنسبة للمسلمين الهنود لا يمكن مقاومته. ولان قادة باكستان ينظرون نفس النظرة الى مبررات الهند، فإنهم يستخدمون التهديد النووي بطريقة قابلة للتصديق.

ان السعي الملح وراء هذه السياسة منح معظم جيران الهند الفرصة لاختبار قوة الهند العسكرية الهائلة. هذا التمازج في الاهداف خلق موقفا يقترب بخطورة من تطوير قوة دفع خاصة به. ففيما يتعلق بالحرب ضد الارهاب العالمي، تعارض الولايات المتحدة انتهاك الجماعات الارهابية لخط التحكم واستخدام الارهاب ضد السكان المدنيين. وهذا هو السبب في ان ادارة بوش استخدمت نفوذها في باكستان للضغط بطريقة متزايدة لانهاء التسلل واغلاق المعسكرات القريبة من خط التحكم التي تسهل عمليات التسلل. كما ان للولايات المتحدة مصالح جيوبولتيكية هامة في العلاقات التعاونية مع الهند. ان النفوذ الاساسي بالنسبة للهند في المنطقة الواقعة بين سنغافورة وعدن متوافق او يمكن ان يكون متوافقا مع المصالح الاستراتيجية الاميركية في كل من الشرق الاوسط وجنوب شرق اسيا.

ولكن ديناميات الوضع ابعد ما تكون عن الوضوح. فمقاتلو «القاعدة» يقفون الى جانب باكستان في حرب كشمير، ولكنهم غاضبون على مشرف لانه وقف مع الاميركيين في افغانستان، وهم سيحتفلون بسقوطه إما لانه بدا ضعيفا امام الهند او نتيجة خسرانه الحرب. ولذلك ومع ان مشرف يقول (وأحسبه صادقا) انه يريد ان يوقف الهجمات الارهابية عبر الحدود فانه لن يتمكن من تنفيذ ذلك عمليا. كما ان لعدد من مقاتلي «القاعدة» وربما بعض عناصر الامن الباكستاني، مصلحة حقيقية في سقوط مشرف ولذلك يمكن ان يتجاهلوا اوامره ويبادروا باشعال الحرب.

هذا الاحتمال يطرح على الولايات المتحدة وضعا شديد التعقيد وكبير المخاطر. ومع ان النظام الباكستاني ينطوي على ثغرات كثيرة الا ان مشرف كان حليفا قويا في الحرب ضد طالبان و«القاعدة»، بل وضد الاصولية الاسلامية كلها منذ 11 سبتمبر. وفي يناير (كانون الثاني) فصل مشرف بين الاسلام وبين اعمال العنف عبر الحدود وشرع في ضبط المدارس الاسلامية التي تدعو للجهاد العالمي، واذا اكتفت اميركا بموقف المتفرج وهي ترى اكثر النظم الاسلامية اعتدالا في المنطقة يسقط امامها فان هذا ستكون له عواقب وخيمة، ليس على افغانستان وحدها بل على كل المنطقة. وسيرفع الراديكاليون عقائرهم صائحين بان التحالف مع اميركا ليس مضمون العواقب كما ان تطمينات اميركا الامنية لا يمكن الاطمئنان اليها. وستفقد قواتنا في افغانستان منطقتها الخلفية، وربما تحصل «القاعدة» على رقعة ارضية جديدة. وبالطبع فان اسامة بن لادن في كابل يمثل خطرا، ولكنه في اسلام اباد يمثل كارثة.

ويمكن لهذا الوضع ان يفلت تماما من السيطرة اذا شعرت الهند ان من واجبها الرد على هجمات ارهابية تقوم بها عناصر غير مسيطر عليها من قبل اسلام اباد، كما سيكون لديها استعداد اكبر للرد على استفزازات مقصودة. وحتى اذا كانت نوايا الهند، في ردها هذا، محدودة، فانها يمكن ان تخطئ في تحديد الخط الاحمر الباكستاني، مما يقود حتما الى التصعيد الذي يمكن ان يصل الى استخدام الاسلحة النووية. ان تقييم باكستان لموقفها الحالي تجاه الهند يشابه تقييم الولايات المتحدة لموقفها تجاه اوروبا اثناء الحرب العالمية الثانية. ففي مواجهة تفوق الجيش الهندي في الحرب التقليدية، تتعامل باكستان مع السلاح الذري كعامل توازن لا بد من اللجوء الى استخدامه. ولذلك فان سقفها لاستخدام الاسلحة النووية اقصر كما ان تعهدها بعدم استخدام الاسلحة النووية ربما يجعل اندلاع الحرب اكبر احتمالا.

ولكن الدول الكبرى ليس لديها أي عذر لتقبل منطق اليائسين القائل ان تدافع الاحداث لا يمكن السيطرة عليه، وخاصة في هذه الحالة التي تتطابق فيها مصالح هذه الدول بصورة جوهرية ومتداخلة. والواقع ان هذه الازمة الناشبة على الخط الفاصل تعتبر حالة فريدة من الحالات التي تدعو لمنهج دبلوماسي يقوم على تعدد الاطراف. فروسيا لن تتعامل مع اجتياح العناصر الراديكالية للعالم الاسلامي وكانه مسالة قليلة الاهمية. وهذا هو السبب الذي جعل الرئيس فلاديمير بوتين يبذل كل هذه الجهود ويقوم بها شخصيا. وللصين علاقات بباكستان استمرت لاكثر من عقد، جزئيا على الاقل، لاعتبارات صراعها الحدودي مع الهند. اما الدول الاوروبية، وخاصة بريطانيا، لها مصلحة تاريخية في التطور السلمي لهذه المنطقة. ومن الواضح ان كل هذه الدول، وبصرف النظر عن اختلافاتها الاخرى، تتفق على الاسس التي اشرنا اليها في موضع سابق من هذا المقال: مكافحة الارهاب ومعارضة اضعاف باكستان. وفي مثل هذه الظروف لا يمكن للولايات المتحدة ان تحصر جهدها في المناشدات، بل عليها على العكس من ذلك ان تلعب دورا قياديا في بلورة هذه المصالح في صيغ رياضية اكثر دقة واكثر اغراء لكل الاطراف. ان السياسة الاميركية يجب ان تساعد مشرف على استبانة الطريق لمحاصرة وتطويق ومنع التسلل عبر الحدود، بينما توضح للهند ان اشعال الحرب سيلحق اضرارا ضخمة بمصالحها الحيوية، بما فيها علاقة الهند مع الولايات المتحدة التي حققت تطورا كبيرا في الفترة الماضية.

واخيرا هناك موضوع استخدام الاسلحة النووية. ولقد استمع العالم الى التهديدات المتبادلة بهدوء عجيب، وكأنما الحرب النووية كارثة طبيعية لا يمكن للبشر ان يسيطروا عليها. ولكن الحرب النووية في شبه القارة الهندية ستعبر خطا فاصلا ظل حتى اليوم يقاوم كل الانفجارات العاطفية في كل الحروب التي نشبت في العصر النووي. ان الدول النووية الاخرى، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا، يجب ألا تسمح بتحول الاسلحة النووية الى اسلحة تقليدية. وستختفي كل الامال الخاصة بالحد من انتشار الاسلحة النووية اذا لم يكن استخدامها امرا يتجاوز اولئك الذين يهددون باللجوء اليها. ويجب ان تقوم واشنطن وموسكو بوصفهما اكبر قوتين نوويتين، بالتعبير للطرفين عن اصرارهما على رسم هذا الخط الفاصل، وان تشرعا في دراسة الاجراءات المحددة التي تحقق فعالية هذه التهديدات. ولكن هذه الاجراءات لا يمكن ان تؤدي غرضها الا اذا حدث تخفيض للمواجهة العسكرية على الحدود في الوقت نفسه الذي تتوقف فيه اعمال التسلل.

* وزير الخارجية الاميركي الاسبق ـ خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»