مقاتلون في سبيل الله

TT

في كتابه الثري «مقاتلون في سبيل الله: صلاح الدين الأيوبي، وريتشارد قلب الأسد، والحملة الصليبية الثالثة»، يقول جيمس رستون الابن إن فرسان الهيكل كانوا الأشد قسوة في قتالهم للمسلمين أيام الحروب الصليبية والأكثر حماسة بين كل المقاتلين الصليبيين. وفرسان الهيكل هؤلاء كانوا نبلاء وفرسانا تحولوا إلى الرهبانية وحياة التقشف والقتال دفاعاً عن المسيح وأرض المسيح، وفق يقينهم وقناعاتهم. ولكن قبل ظهور مثل هذا «الراهب المقاتل» كانت هنالك مشكلة لا بد من حلها، وما كان للراهب المقاتل أن يظهر بدون حل تلك المشكلة. المشكلة هي أن الدين المسيحي في جوهره ومختلف نصوصه، هو دين تسامح كامل، وصفح شامل عن كل خصم، وسلام يصل إلى درجة الاستسلام: «من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، «أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وهكذا. دعوة أخلاقية صافية، لا علاقة لها بهذه الدنيا وصراعاتها، بل هي دعوة إلى ملكوت السماء وفق رسالة المسيح الأساسية. وبهذا المعنى، فإن القتال والروح العسكرية غير واردة في التعاليم المسيحية الأساسية، وهي التي عبر عنها القديس مارتن في القرن الرابع الميلادي، بالقول: «أنا جندي المسيح، ولذلك لا يجب عليَّ أن أقاتل».

ولكن هذه الروح الرافضة للقتال تغيرت في العصور الوسطى، كما يقول رستون، وأصبح المتشددون الجدد يبحثون في الإنجيل وأقوال القديسين عن أقوال تبرر نزعتهم العسكرية والانغماس في صراعات عالم قيصر باسم عالم الله، فاندمج العالمان، رغم كل أقوال المسيح وأخلاقيات المسيحية الأولى، فوجدوا ضالتهم في الرسالة الثانية للقديس بولس إلى تيموتاوس:

«احتمل المشقات كجندي صالح للمسيح يسوع. ليس أحد يتجند فيرتبك بهموم الحياة، وذلك ليرضي الذي جنده..». وحل القديس المقاتل «ميخائيل» محل القديس المسالم «مارتن». وفي القرن الحادي عشر للميلاد، أسقطت الكنيسة الحظر على القساوسة في أن يحملوا السلاح، وتحولت المسيحية من مرحلة المعاناة في تلقي الألم كتعبير عن التقوى ورفض عالم المادة، إلى العسكرة ومنح الألم، كتعبير عن إرادة الرب ذاته. وفي الحروب الصليبية، اندفع المسيحيون للقتال بضراوة بعد أن أصدر البابا «أوربان» صك غفران لجميع المسيحيين الذين يقاتلون المسلمين، وبذلك سقطت مسيحية المسيح، وانتصرت مسيحية الباباوات والمتشددين من القساوسة والرهبان (جيمس رستون الابن. مقاتلون في سبيل الله، ترجمة رضوان السيد. الرياض: مكتبة العبيكان، 1423هـ ـ 2002م، الفصل الثاني: مملكة السماء).

والمسيحية التاريخية ليست هي الوحيدة في تاريخ الإنسان التي حاول ويحاول المتشددون فيها أن يبحثوا عن النصوص المشرعنة لممارسة العنف بوصفه قيمة في حد ذاته، وليس وسيلة مشروطة ضمن وسائل أخرى كثيرة، ورغم كل تلك الوفرة من النصوص التي تقيد العنف باعتباره شذوذاً عن القاعدة. فإذا كان المسيحيون المحاربون استندوا إلى رسالة يتيمة للقديس بولس، وأقوال بعض القديسين، فإن اليهود المتعطشين للدم استندوا إلى بعض أسفار التوراة والعهد القديم (التثنية والقضاة تحديداً) وأقوال التلمود، والمسلمين الباحثين عن القتال إلى آيات بعينها في سورة الأنفال، وكذلك يفعل الهندوس والبوذيون المتشددون وغيرهم بالنسبة لكتبهم المقدسة، وفي هذا الجانب تحديداً. ففي النهاية، ليس المهم هنا هو النص بذاته، ولكن المهم هو ما يراد من النص من تحقيق لغايات قارئ النص والباحث عن معنى معين فيه. فالذي قتل المهاتما غاندي، مثال الإنسانية والخلق الرفيع في القرن العشرين، كان هندوسياً متعصباً ومتوتراً لم يعدم وجود نص مقدس من كتابه المقدس، يبرر له ما فعل، بالرغم من أن غاندي نفسه كان يستمد الكثير من أفكاره وسلوكه أيضاً من كتاب الهندوس المقدس. وفي ذلك يقول «فريد هاليداي»: «فثمة في كل الأديان، إذا اختار الناس أن ينبشوا فيها، نصوص وسوابق تسبغ العنف والإرهاب والتضحية بالنفس من جانب الأفراد..وهم لم يكونوا يسترشدون بنصوص، بل اتجهوا باحثين عما يريدون من النصوص..فالأديان كلها تتضمن نصوصاً يمكن الاستشهاد بها لتبرير الإرهاب والأعمال الهمجية في الحرب. لكن هناك مبادئ ضبط وتقييد أيضاً لمن يريد استخدامها أو العثور عليها». (فريد هاليداي. ساعتان هزتا العالم، 11 سبتمبر (ايلول) 2001: الأسباب والنتائج. لندن: دار الساقي، 2002 ص 33 ـ 36). القضية إذاً ليست قضية أن هذا الدين دين ارهابي أو عنيف، وذاك دين مسالم، وآخر دين بين بين. بل يمكن التعميم هنا على كافة النصوص المجردة، المقدس منها والدنيوي، والقول إن قارئ النص في النهاية هو من يحدد معناه إلى حد بعيد، وليس النص ذاته. فغاندي المتسامح وقاتله المتعصب كانا ينتميان إلى نفس المرجعية النصية، وكل منهما كان يعتقد أنه يجسد المضمون الحقيقي للنص المرجعي. واليهودي المؤيد للدولة اليهودية في فلسطين يستند إلى ذات المرجعية النصية التي يستند إليها يهودي آخر رافض لقيام ذات الدولة. والنص الوارد في رسالة القديس بولس مثلاً، يحتمل من المعاني الشيء الكثير، ولكن الباحثين عن معنى محدد في النص وجدوا فيه ضالتهم، وجعلوه لا يحتمل إلا معنى واحدا هو المعنى الذي يبرر غايتهم ويشرعن لها، حتى من قبل أن يقرأوا النص. وذات النص قد يجد فيه قارئ آخر معنى مضادا تماماً ما لم يجده فيه الباحث عن تبرير لممارسة العنف مثلاً. وذات الشيء يمكن أن يُقال عن كافة النصوص المجردة، أو التي جُردت فأصبحت متسامية على الزمان والمكان معاً. الخلاصة هي أن القارئ «الغائي» هو في النهاية من يحدد معنى النص الذي بين يديه، وفقاً للغاية التي يسعى إليها. هذا لا يعني أن النص، أي نص وكل نص، لا يحمل في ثناياه أي معنى، بل العكس هو الصحيح. فالنص المجرد يحمل كل المعاني، ولأجل ذلك أصبح متسامياً، ولكن الإنسان، فرداً كان أو جماعة، هو من يختار معنى محدداً دون بقية المعاني الواردة ضمناً في النص.

وفي عالمنا العربي والإسلامي، يشبه حالنا اليوم حال الأوربيين المسيحيين في عصورهم الوسطى، وورثنا بعض معضلاتهم الاجتماعية والثقافية، وخاصة ما تعلق منها بالعلاقة بين الدين والدنيا. انتشرت لدينا ظواهر ما كانت تعتبر من الظواهر في عصورنا الوسطى، منها ظاهرة التكفير، وظاهرة القراءة الاختزالية «العنفية» والاقصائية لنصوص الإسلام كلها، ونحو ذلك من ظواهر مرتبطة، ليس بين المختلفين في المرجعية مثلاً، بل وبين المنتمين إلى ذات المرجعية. والكل يستند في موقفه إلى نصوص من القرآن والسنة، وأقول إن من يعتبرهم وينتقيهم من السلف الصالح، يرى فيها شرعية موقفه، وبالتالي وصايته على الحق والحقيقة، وملكيته المدعاة، وفقاً لذلك، لحق منح الموت والحياة، جنة الرحمن ونار الجبار. والحقيقة، منظوراً لها من زاوية مختلفة، هي أن الحاكم هنا ليس النص بذاته، ولا المرجعية بذاتها، بقدر ما هو الغاية الأولية لقارئ النص، حتى وإن لم يقرأ النص. فالنص هنا مجرد خادم للغاية، وليس بالضرورة أن تكون الغاية هي خادمة النص. هذا لا يعني أن مثل هذا القارئ «خبيث» أو متآمر أو نحو ذلك، بل على العكس من ذلك تماماً. فقد يكون حسن الهدف، سليم النية، نقي السريرة والطوية، ولكنه مزيج الوعي الضيق، والمصالح الدنيوية، والبيئة والتنشئة التي في النهاية تحدد الغاية، ومن ثم تقوم الغاية بتحديد معنى محدد للنص يتوافق مع مسار تلك الغاية. أما النص بذاته، فهو فضاء مفتوح لكل من ينتمي إلى مرجعيته العامة، وبالتالي فهو تعددي بطبعه، وهنا تكمن جينة تساميه، وصلاحيته لكل زمان ومكان. بغير هذا الفهم لطبيعة النص وفضاءاته المفتوحة، وفي تقدير الكاتب المتواضع على الأقل، فإنه لا أمل في مقارعة حضارية مع بقية هذا العالم اللاهث في سباق لا ينتهي إلى الأمام. هذا، وكان الله دائماً في عون من يعينون أنفسهم أولاً وآخراً.