«ترمومتر» سياسي اسمه... وليد جنبلاط

TT

في خضم التشنج الحاد والتلويح بأعلام التشدد والسير نحو الهاوية، انطلق في لبنان خلال الاسبوع الماضي صوت يدعو الى تغليب خيار التعقل والاعتدال.

وليد جنبلاط، صاحب هذا الصوت، سياسي خبير يحسن توقيت «الخروج على النص»، وخصوصاً عندما يكون النص اخرق او فارغاً او مغلوطاً. وإجادة جنبلاط «الخروج على النص» نابع اولاً واخيراً من حقيقة كونه واحداً من قلة ضئيلة من الساسة اللبنانيين والعرب التي تقرأ. والتي اذا قرأت تفهم. وإذا فهمت تستقرئ فتحذر (بفتح الذال) وتحذِّر (بتشديدها وكسرها).

إبان انتخابات المتن الشمالي الأخيرة اختار جنبلاط، «الدرزي» و«الاشتراكي» و«العروبي»، ان يدلي بدلوه في معركة انتخابية مسيحية محافظة تحوّل فيها حتى قرار الناخب الارثوذكسي الى الساحة المارونية، وذلك لأنه ـ اي جنبلاط ـ قرأ... واخافه ما قرأه.

فقد لا يكون من قبيل المصادفة مثلاً توقيت خطف المهندس «القواتي» رمزي عيراني مع تصفية جهاد احمد جبريل، ابن قائد «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة» في قلب بيروت الغربية. وحتماً ليس من قبيل المصادفة ان ترتفع بعض الأصوات الديماغوجية والمتطرفة مهاجمة او متهمة سورية او جهات محسوبة عليها، مع العلم ان مصداقية الامن السوري هي التي كانت فعلياً مستهدفة بالعمليتين. وللانصاف يجب هنا التمييز بين موقفين مختلفين جوهرياً داخل الشارع المسيحي اللبناني المناوئ لسورية، رغم التقارب الظاهري بينهما.. الأول اعتبر ان الوجود الامني السوري في ضوء ما حصل ما عاد يضمن الأمن، اما الثاني فقفز بعبثية وحقد غبيين الى اتهام جهات محسوبة على سورية بافتعال جريمة قتل المهندس عيراني.

المهم هنا ـ طالما نحن نتكلم عن هاتين الجريمتين، رغم امكانية الا يثبت وجود ترابط مباشر بينهما ـ عنصر التوقيت. والتوقيت خطير للغاية كيفما نظرنا اليه.

فأصوات العداء الشرس للعرب والفلسطينيين في الاعلام الاميركي، ممثلة بأمثال تشارلز كراوثامر (الواشنطن بوست) ووليام سافاير (النيويورك تايمز)، تشحن الرأي العام الاميركي وتحقنه. وهي تحرّض كذلك صانعي القرار داخل الكونغرس واروقة البيت الابيض على الوضع اللبناني، بالذات، على اعتبار انه اضحى «القدوة» لجيل الاستشهاديين الفلسطينيين، وبالتالي وفقاً للمصطلحات الدارجة في واشنطن اليوم «عمقاً للإرهاب» المطلوب استئصاله.

كراوثامر كتب يوم 10 ابريل (نيسان) الماضي مقالة فظيعة في «الواشنطن بوست» حرّض فيها صراحة ضد لبنان و«حزب الله» وسورية وايران تحت عنوان «الخطر في لبنان». وذهب في مقالته الاسرائيلية الروح والطرح الى حد قول ما معناه ان المكافأة الوحيدة التي حصلت عليها اسرائيل بانسحابها من اراضي لبنان هي التعرض لهجمات عدو صار اكثر قوة وتعصباً وعدوانية وإصراراً على محاربتها. وخلص، بنتيجة هذا العرض بالقول ان انسحاب إسرائيل من الاراضي الفلسطينية المحتلة لن يضمن السلام لإسرائيل... تماماً كما حدث مع الانسحاب من لبنان.

مرة اخرى... لنراجع التوقيت.

توقيت مقالة كراوثامر، وعدد من المقالات المشابهة، منه ومن غيره من أصوات الاعلام الصهيوني في اميركا، والتي جاءت جزءاً من حملة تكثيف تحركات «اللوبي» الاسرائيلي داخل واشنطن ضد لبنان وسورية. وهذه الحملة اشرت اليها في هذه الزاوية (عدد 19 مايو الماضي)، عندما تناولت تقريراً لصحيفة «النهار» اللبنانية (عدد السبت 4 مايو 2002) حول مساهمة «منظمات لبنانية» في واشنطن بعمليات جمع تواقيع لدعم «اللوبي» الاسرائيلي الاميركي بالكونغرس المطالب بفرض عقوبات ضد سورية من «أجل انهاء دعمها للإرهاب واحتلالها للبنان»! في هذه الاثناء، يجب تذكر ان هناك «امتدادات» إسرائيلية داخل لبنان، ما زالت تراهن على تغير راديكالي للمعادلة الاقليمية. وللأسف، بعض الوجوه الاكثر وقاراً من هذه «الامتدادات»، ونفر من اولئك الذين لعبوا ادواراً محورية في «اتفاق 17 مايو 1982» بين إسرائيل الغازية ولبنان المغزو... ما زالوا موجودين بصفة استشارية محترمة عند عدد من اهل السلطة اللبنانية الحاليين..

وليد جنبلاط وغيره من اللبنانيين الذين يجيدون القراءة... يعرفون هذه الحقيقة. وهم على بينة مما يحصل ليس في لبنان فحسب، بل في مختلف مطابخ السياسة في واشنطن ولندن وباريس... وتل ابيب واوسلو. ولهذا راقب راصدو الوضع اللبناني مواقف جنبلاط خلال السنتين الفائتتين بكثير من الاهتمام. وهم اليوم اكثر حرصاً على استقراء مواقفه وتصريحاته الاخيرة.

لا شك ان لجنبلاط، مثله مثل اي سياسي لبناني، حسابات معينة تمليها عليه خلفيته السياسية والثقافية والطائفية. ولكن لجنبلاط ايضاً ثوابت وقناعات معينة... يخطئها البعض او يسيئون تفسيرها. فهو بعد تجربة الحرب اللبنانية، التي اسهمت اسهاماً كبيراً في بناء زعامته، توصل الى اقتناع بأن الاحتكام الى السلاح لن يحل اي معضلة سياسية في لبنان. بل سيعمق الشروخ وسيلحق تدميراً اكبر واخطر بالبنية التحتية والنفسية في البلاد.

وتعزيزاً لهذا الاقتناع، يرى جنبلاط ان في رأس اولويات اللبنانيين، بعد ترسيخ الوفاق الوطني الحقيقي، التفاهم بصدق على تأسيس المجتمع المدني وصونه. وإنهاض المؤسسات الكفيلة بتفعيل العمل في هذا المجتمع المدني.

بالنسبة لشق الوفاق الوطني، يعتبر جنبلاط ان «اتفاق الطائف» هو القاعدة التي ينبغي منها الانطلاق ابعد نحو لبنان «لا طائفي» تشعر جميع طوائف الكيان اللبناني بأنها جزء اساسي منه، ونحو لبنان عربي الهوية والدور والمصير لا يشكل خاصرة ضعيفة لاخوانه ولا منفذاً لاعدائه واعدائهم. وبالنسبة لشق المجتمع المدني فيعني جعل الكلمة وسيلة للحوار، والإقناع جسراً للتفاهم الطوعي والتلاقي الاختياري الاخوي، بعيداً عن الضغوط والابتزاز من شتى الاصناف. لهذا، نظر جنبلاط الى الحالة المسيحية في لبنان فوجد فيها عدة عناصر مقلقة:

ـ عنصر الشعور بالاحباط والخسارة (ديموغرافياً ومن ثم سياسياً).

ـ عنصر السلبية في التعامل مع الوطن ومصيره، كإحجام نفر من كبار الاثرياء المسيحيين عن الاستثمار في لبنان، طالما ان هذا «اللبنان» فقد ارجحيته المسيحية.

ـ عنصر التجاذب بين اربعة تيارات رئيسية هي: تيار ليبرالي معتدل مقتنع بعروبة لبنان لكنه لا يقاتل من اجلها، وتيار محافظ وانعزالي لكنه مستعد لتقبل العيش المشترك في دولة لا طائفية، وتيار غير ديمقراطي موغل في الانعزالية والرهانات المعادية للعرب والعروبة، وتيار منافق وغير ديمقراطي همه الاوحد السلطة ومن مخاطر مغامراته عقد تحالفات ظرفية والاستقواء بها.

هكذا يقرأ جنبلاط الحالة المسيحية اليوم، وهو يراهن على كسب التيار الاول ـ اي الليبرالي ـ وتحييد التيار الثاني ـ أي المحافظ المتقبل للعيش المشترك، ومن ثم تعزيز وجوديهما في وجه التيارين الآخرين اللذين يفيد الواحد منهما الآخر سواء من حيث التصرفات او الخطاب السياسي.

وهكذا، عندما خاض جنبلاط الانتخابات العامة متحالفاً مع بعض الرموز المسيحية الليبرالية والمحافظة كان يؤكد اولوية التعايش ضمن مجتمع مدني يتسع للجميع. وعندما رحب بالبطريرك الماروني ابان زيارة البطريرك منطقتي الشوف وعاليه كان جنبلاط يراهن مجدداً على تغليب خياري الاعتدال والتعايش عند المسيحيين. وبعدما سعى الزعيم الاشتراكي من خلال استقباله نائب الرئيس السوري السيد عبد الحليم خدام الى تذكير «مَن يهمهم الأمر» بوجود اولويات سياسية دقيقة لديه لا يجوز إساءة تفسيرها، فإنه في انتخابات المتن الشمالي الاخيرة وقف علناً مع المرشح الليبرالي غسان مخيبر مع انه كان مقتنعاً بأن الاستقطاب الشديد في هذه المرحلة سيحرم مخيبر من الفوز. قراءة جنبلاط لخطورة الوضع ما زالت تدفعه لتغليب الاعتدال على التطرف المغامر او المشبوه في الشارع المسيحي.. كي لا يستولد هذا التطرف تطرفاً مقابلاً خطيراً في الشارع الاسلامي. ولذا على اللبنانيين كلهم الحذر والتفهم والاتعاظ.