لماذا تخلفنا؟

TT

قبل شهر واحد تساءلت في مقال نشر لي في «الشرق الاوسط» عن امكانية تغيير السياسات التي ادمناها، منذ انقلاب حسني الزعيم الى ان استطاع رجال الدين ان يسحبوا البساط من تحت اقدام العسكريين، ونقل ساحة المعركة الى اماكن العبادة. وكان تركيزي على ان الامة العربية ـ او بمعنى ادق قياداتها ـ جعلت القضية الفلسطينية شغلها الشاغل، وتجاهلت ان الانتصارات العسكرية ضد العدو لا يمكن ان تتم عن طريق السلاح فقط، ولكنها تحتاج الى بنية علمية واجتماعية واقتصادية تستطيع ان تتحمل اعباء المعركة.

وتساءلت عن حال الامة العربية اذا ما ركزت على البناء الداخلي، دون ان تتنامى القوة العسكرية التي تحتاج الى مؤهلين يستطيعون استيعاب اصول الحروب الحديثة.

وكم كانت دهشتي عندما تلقيت سيلا من الانتقادات، التي ركزت على ان هذه الرؤية هي ذاتها السياسة التي تركز عليها الولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما لوقف الزحف العربي (!!) لدحر اسرائيل وازالتها من الخارطة الشرق اوسطية. وان هذه الافكار (الشيطانية) تعمل على هدم احلام العرب وتدمير آمالهم قريبة المنال!! ان هذه القناعات تجعل من العسير على المرء ان يدخل في حوار عقلاني مع مؤيديها، خصوصا انهم يدغدغون مشاعر العامة، الذين اصابهم الاحباط من اوضاعهم الداخلية واستحالة تغييرها، فتوجهوا بعواطفهم نحو العدو الخارجي. والمذهل ان المثقفين (او من يطلق عليهم في العالم العربي مجازا النخبة) اصبحوا يتبارون في انتزاع اعجاب الجماهير عن طريق الصراخ والعويل دون ان يكلفوا انفسهم عناء التوقف للتأمل والدرس في اسباب الحالة الراهنة من تخلف علمي وانهيار تعليمي وتدهور في الخدمات الاساسية.

لقد اصبح المثقفون يلهثون وراء سراب الحكم، او السطوة التي ضاعت من بعضهم الاخر، وتركوا امر تحليل الاوضاع ودراستها الى فئات لا تعترف بالمنهج العلمي وسيلة للتخطيط والبحث.

هل سمعنا ان الجامعة العربية تنادت الى عقد قمة عربية لمناقشة اوضاع التعليم في العالم العربي!! ان اليابان تشكو من تدهور المستوى التعليمي، والولايات المتحدة الاميركية جعلت التعليم احد اهداف الحملات الانتخابية، وأوروبا التقى قادتها مرات ومرات لمناقشة ما اعتبروه كارثة تعليمية في قارتهم. واذا كانت الجامعة العربية مشغولة في توزيع مغانمها ـ على محدوديتها ـ على الدول الاعضاء فيها دون النظر الى الكفاءة، فأين هم مثقفو الفضائيات!! ان هذه الامة تحتاج الى حوار هادئ عقلاني بعيدا عن الاضواء، ولا ينشغل فيه المجتمعون بصياغة برقيات الشكر والتأييد لقائد القطر المستضيف. حوار لا يحمل في جدول اعماله سوى سؤال واحد: لماذا تخلفنا؟

ان هذا السؤال يتطلب حتما من المثقفين الحقيقيين التخلي عن عواطفهم والحديث بصراحة متناهية، عن معوقات التنمية التي بدونها لا يمكن الحديث عن معركة.

لقد عاشت الامة مرحلة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». ثم تعايشت معه الى ان تحول من كونه رغبة الى شعار مثل شعار «وحدة ـ حرية ـ اشتراكية»، ليستبدل آخرون به شعار «الاسلام هو الحل»، لينتهي الامر بشعار «أم المعارك» التي يقال ان العقل العربي لم يستوعبها بعد (!!!). واذ بالأمر يتحول من عمل ومثابرة الى تنافس في طرح الشعارات وعلكها.

اننا بحاجة الى التخلي عن اوهامنا وعدم الالتفات الى تاريخنا، الا بمقدار ما نستلهم منه العبر ونستفيد من تجاربه، لا لتخدير الاجيال ببطولات وفتوحات، ما زال بعضنا يختلف عليها منذ يوم السقيفة، وينكرها بعض ويكفرها بعض آخر.

* دبلوماسي عربي يفضل عدم ذكر اسمه