فيروز في السبعين: التعايش بين الرومانسية والواقعية الشبابية

TT

العالم ليس مسكونا فحسب بهاجس الآيديولوجيا. لقد قلبت الثورات السياسية الأنظمة والمجتمعات والأفكار في القرن الماضي. لكننا نحن العرب نتجاهل ثورة أخرى لا تقل تأثيرا في حياتنا. فقد أحدث فنّان اثنان من فنون الثقافة الشعبية انقلابا اجتماعيا لا يقل تأثيرا في حياة الناس وذوقهم الجمالي، بل في مظهرهم وملابسهم.

كان هناك أولا فن الصورة المتحركة (السينما). ثم ما لبث أن لحق به وتحالف معه فن السماع، فن الغناء. لقد قيل الكثير في فن السينما، لكن ما زال هناك الكثير الكثير لكي يقال في التفسير الاجتماعي للثورة الغنائية التي اجتاحت العالم منذ ستينات القرن الماضي.

لقد وصلت هذه الثورة الغنائية إلى العرب متأخرة نحو ثلاثين سنة. وها هم يعيشون منذ التسعينات، دون أن يدروا أو يعترفوا، ثورة حقيقية سمعية وبصرية قلبت مفهوم الغناء التقليدي ومضمونه الاجتماعي.

الطريف ان الثورة الأصولية هي أول من أدرك وتحسس «خطر» ثورة الفنون الشعبية عليها. وهي لا تخوض حربها «الجهادية» ضد الدولة والمجتمع فحسب، وانما أيضا لتكفير وزندقة الفن الشعبي، وإخماد ثورته البصرية والسمعية.

الدولة العربية لا تقدم الدعم والحماية للفن الشعبي، بل هي تتحالف غالبا مع الأصولية في مواجهته وفرض رقابة ثقافية وإعلامية صارمة عليه. وشكرا للتقنية الالكترونية فهي السلاح الذي لجأت إليه الثورة الفنية لضمان انتشارها الواسع والمذهل ولكسر حدود الرقابة الرسمية والأصولية.

لقد حاول النظام التيوقراطي والمنظمات والأحزاب الأصولية الرديفة له تحريم السينما والغناء رسميا في إيران وأفغانستان، وربما في السودان والجزائر وبعض الخليج وباكستان. وفي مصر بالذات، هناك جهد أصولي منظم لإعادة «أسلمة» نجوم السينما والغناء بالإغراء أو بالتهديد والوعيد، كما حدث مع النجمة شادية، للحد من تأثيرهم الليبرالي في المجتمع المصري.

سجل التحريم والرقابة نجاحا أوليا في إيران. لكنهما لم يستطيعا السيطرة على الثورة الالكترونية. فقد تكفل تهريب سلع الثقافة الشعبية من دش وفيديو ومسجلات صوتية باختراق الحدود والرقابة. وكانت الكآبة الاجتماعية والتدخل في صميم الحياة اليومية والشخصية من أسباب رفض الجيل الإيراني الجديد للنظام التيوقراطي. وقد اضطرت اصلاحية خاتمي إلى التراجع وإعادة السماح بقدر محدود من النشاط الفني السينمائي والغنائي.

لكن ما هو مضمون وملامح الثورة الغنائية العالمية؟

التحرر الاجتماعي في الستينات وسّع أبعاد الهوة الثقافية بين الأجيال في المجتمعات الغربية. نشأ جيل آخر في ظل الرفاهية والرخاء الاقتصادي، يرفض قيم جيل أقدم أكثر محافظة وتمسكا بالتقاليد. بعد السينما، جاء التلفزيون والترانزيستور ليفرضا معا ديمقراطية الثقافة الشعبية، فبات فنها الغنائي متاحا بسهولة وفي كل لحظة.

كان فرانك سيناترا ثم شارل أزنافور وأديت بياف وميراي ماتيو... يحلقون بجمهور يستمع في الصالة بأدب وانضباط إلى الأغنية الرومانسية، فتسبح به في عذاب حب خيالي ومثالي. ديمقراطية التسلية والمتعة ألغت هذا الفاصل بين نجم الأداء الفني وجمهوره الشبابي الجديد. في التجاوب مع جيل يبحث عن الإثارة، قلبت موسيقا «الروك آند رول» أصول الغناء التقليدي والشعبي. بات الأداء الفني الجماعي أو الفردي على المسرح يندمج ويلتحم مع الشباب والمراهقين في الصالة أو في العراء.

الوقع المتسارع للغناء والموسيقا أحدث أيضا ثورة في الفن التعبيري. فقد تحالف الغناء مع الرقص ليحرره هو أيضا من رومانسية المرأة المستسلمة لقيادة الرجل في «التانغو» الحالم، فباتت ترقص أمامه وجها لوجه، وتهز جسدها ندا لند مستقلة عنه ومتحررة منه. وأصبح نجوم الـ «روك آند رول» من فرق البيتلز والرولينغ ستون الى الفيس بريسلي وبوب دايلن وجوني هاليداي، ثم الآن ميك جاغر ومايكل جاكسون ومادونا... رموزا لغناء ورقص معبرين عن الحرية الاجتماعية والجنسية. وباتت الكلمة المغناة أكثر عادية وواقعية واقترابا من هموم الحياة.

حَيَّدَ هؤلاء جميعا الغناء التقليدي، وألزموا نجومه الأبراج المخملية، ولم يبق طافيا على السطح سوى فرانك سيناترا إلى آخر يوم في حياته في اميركا، وربما بعض أقرانه في أوروبا كإغليزياس وأزنافور الذي يقترب بسرعة من الثمانين. ووفرت الديمقراطية الالكترونية الانتشار الواسع للنجم والثراء الواسع له ولشركة الانتاج والتوزيع. فألبوم واحد لمادونا أو جاكسون يوزع عالميا بين عشرين إلى ثمانين مليون نسخة. وأصبح «الديسكو» بأضوائه المتموجة وموسيقاه الصاخبة ساحة التعارف والانطلاق نحو صداقة عابرة أو دائمة متحررة من عقد الخوف والجنس.

أكثر من ذلك، فقد كان للثورة الغنائية بُعد سياسي واجتماعي. فقد رفض جيل الـ «روك آند رول» ونجومه العنصرية والفاشية مبشرا بعالم يصنع الحب أكثر مما يصنع الحرب، بل وبعالم أكثر التزاما بالمساواة بين الرجل والمرأة، وإيمانا بحقوق الإنسان.

غير أن «الروك آند رول» كانت له سلبياته الخطيرة. فقد أدى إلى انفلات الحرية الجنسية، وإلى سطحية الثقافة وابتذال الكلمة، والانصراف عن الثقافة الرفيعة، ثقافة الكتاب والفكر والصحافة الجادة. وتطور اخيرا مع موسيقا وغناء الـ «راب» إلى تمجيد العنف والجنس والجريمة والمخدرات في غوغائية شارعية. ومات نجوم هذين الفنين الغنائيين مبكرا أو أودعوا السجون.

ما هو صدى هذه الثورة الفنية في العالم العربي؟

وصل الصدى متأخرا. كان هناك جمهور شبابي ضيق المساحة لموسيقا ورقص الـ «روك آند رول» منذ الستينات. لكن العرب، أو بالأحرى الجيل المراهق والشبابي، يعيشون منذ التسعينات ثورة غنائية جديدة تماما. فالأغنية المتعارف على تسميتها بـ «الشبابية» هي في الواقع «روك آند رول» على الطريقة العربية! لقد فرضت وتيرة الحياة اليومية المتسارعة وصخبها وسلبياتها السياسية وقعا أكثر توترا على فن الغناء العربي. لم يعد الصوت الجميل واللحن المتنوع مطلوبين في الأغنية. فقد فرض الفيديو كليب شروطا مختلفة في النجم المؤدي: الرشاقة والسرعة والملابس العادية الأكثر التصاقا بالجسم، وأيضا قدرا من الوسامة في النجم والجمال في النجمة.

غير أن المضمون الاجتماعي للروك العربي خال من أي تعبير سياسي، ربما لسطحية نجومه ولخوفهم الدائم من مجتمع محافظ، ومن دولة وأصولية صارمتين في الرقابة والحد من الحريات السياسية والاجتماعية.

بل عكس انتشار الأغنية الشبابية سطحية الثقافة الشعبية وأمية المعرفة والاعتداء على الفصحى، وعبر عن تردي الذوق الجمالي وحاسة التذوق الفني في المجتمعات العربية. مع ذلك، فلست داعيا هنا لقمع الروك العربي. فهو تعبير عن جيل آخر، جيل شبابي ومراهق يشكل الآن ثلثي أمة يقترب تعدادها من 300 مليون انسان. ولا بد من تقبل احتجاجه وتمرده، واحترام ذوقه ومفهومه الفني. وعلى أية حال، فالأغنية العربية الشبابية على سلبياتها، تشكل عائقا أمام غزو الثقافة الشعبية الاميركية، ومحاولتها عولمة مجتمعات أكثر استعدادا للتأثر والتلقي منها إلى المبادرة والابتكار والاحتفاظ بهويتها الوطنية والقومية.

ما يهمني هنا هو هذا التعايش المستمر إلى الآن بين رومانسية الغناء التقليدي وواقعية الغناء الشبابي. ما زال جيلي، جيل الشباب في الستينات يتمسك بفنه ومفهومه للثقافة الشعبية. واستمرارية عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد وحليم بعد الرحيل الطويل، تجسد هذا الحنين الأقلوي إلى عصر رومانسي ضائع.

هذه الاستمرارية الفنية تتجسد أيضا في شعبية نجوم معمِّرة ما زالت متألقة. انك لتدهش إذا عرفت ان فيروز ونجاة في السبعين، ووردة فوق الستين، وصباح فخري الذي يرقص على المسرح مع جمهوره الشبابي وهو فوق السبعين.

وحدها فيروز في هذه المرحلة من العمر تحاول التوفيق بين كبرياء الفن التقليدي وواقعية الغناء الشبابي، من خلال استجابتها إلى مفهوم عصر فني جديد يمثله ابنها زياد الرحباني. لقد أنزلها من رومانسية الحب العذري في القرية الجبلية الهادئة، ليقذف بها إلى صخب المدينة ووقعها المتسارع وواقعيتها في الحب والحياة.

ولعل عذري في استعارة ثلاثاء آخر للحديث، في هذه الصفحة السياسية، عن مدارس الأداء الفني والغنائي، هو إيماني بأن الفن أيضا سياسة في رؤاها الاجتماعية المختلفة من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل.