هل الحداثة مشروع حضاري غربي؟

TT

كنا قد ختمنا ملاحظاتنا حول اشكال وحدة أو تعددية الحداثة بسؤالين مترابطين، يتعلق أحدهما بالحد الفاصل ضمن مقاييس الحداثة بين المرجعية الحضارية الغربية والثوابت والكليات المطروحة للتصدير والاحتذاء، ويتعلق ثانيهما بالعوائق التي تحول دون اكتساب الحداثة واستيعابها ضمن الانسجة الحضارية غير الغربية.

بخصوص السؤال الأول الذي يهمنا في هذا الحيز، نبادر بالتذكير ان مرتكزات الحداثة الغربية تمثلت في ثلاث ظواهر كبرى بارزة للعيان هي: الثورة العلمية التقنية الهائلة التي غيرت جذرياً نظام المعارف بقدر ما حورت وقلبت الوضع الانساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكٍُّم وسيطرة في الوسط الطبيعي، الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية، المثل والقيم الانسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والآيديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي اعلاء لشأن الانسان وتكريس لحريته الذاتية.

والواقع ان هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما:

ـ النموذج الرياضي ـ التجريبي: أي اعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الانسان، وبالتالي تحويل المعرفة، وظيفة نفعية اداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وان كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار «اليقين العلمي»، كما بين الفيلسوف الألماني هايدغر.

ـ مفهوم «الذاتية» الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة. ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول لليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي افكارا تنتمي عضويا اليه أو ترد اليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما. ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديدات الانطولوجية تكريس حرية الانسان في تجسيد ارادته «المطلقة» في بناء وعيه واختيار مؤسساته وادارة حرياته الشخصية.

ومن الواضح ان هذا الاطار المرجعي ـ القيمي للحداثة أصبح اليوم ـ في الظاهر على الأقل ـ ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الانسان واحترام ارادة المواطن.. حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة مسكوتاً عنها.

فهل لهذه المفاهيم جذور حضارية غربية تفسر ظروف نشأتها وبروزها، وتشرح أسباب تعثرها في المجالات الحضارية الأخرى؟

للاجابة على هذا السؤال، لا بد من تحديد المقصود هنا بالغرب باعتبار ان هذه المقولة تستخدم على نطاق واسع بدلالات متمايزة. ولا شك ان المقصود بالغرب هنا هو اساسا أوروبا ذات الثقافة المسيحية ـ اللاتينية بتراثها الاغريقي ـ الروماني ومجالها المتوسطي وامتداداتها الامريكية منذ القرن السادس عشر.

وليس من همنا الوقوف عند الدراسات الاكاديمية المعمقة التي حاولت من منظور تاريخي وفلسفي ـ اجتماعي تفسير ظروف نشأة العلم التجريبي الحديث والدولة المدنية الحديثة وما يرتبط بها من منظومة قيمية، فذلك ما نتركه لأهل الاختصاص (وقليل ما هم)، وانما نكتفي بملاحظتين مقتضبتين نعتقد انهما اساسيتان في هذا السياق:

أولاهما: اذا كانت مصادرة الايمان بقوانين ثابتة في الطبيعة تكتشف عن طريق التحقق التجريبي مسلمة ميتافيزيقية لا دليل علميا عليها كما يقول العالم الفيزيائي المشهور ماكس بلانك، فما هي خلفية هذه المصادرة؟

تذهب بعض الدراسات الى ارجاعها لمفهوم «اليقين الديني» كما طرحته المقاييس الفلسفية المسيحية الوسيطة، أي اعتبار الحقيقة تطابقا بين العبارة (أو الفكرة) والمرجع الخارجي. ويذهب هايدغر الذي عرف بنقده لميتافيزيقا الحداثة الى هذا الرأي، مبينا أوجه الاختلاف العميق بين هذا التصور والفكرة اليونانية للحقيقة كانكشاف وتجل.

ولقد بينت الابستمولوجيا النقدية الحديثة وهم «العلم الكلي المجرد» واثبتت ان الممارسة العلمية تتجذر في الارضية المعرفية ـ المجتمعية التي تنبثق فيها وتحمل بصماتها، مما يتجاوز مجرد القابلية للتوظيف الآيديولوجي ويصل الى حد التصورات والاجراءات التطبيقية ذاتها، مما يجرنا الى سؤال اساسي يتصل بمدى قابلية بناء ممارسة علمية ذاتية اي مجردة من المسبقات والخلفيات الحضارية والمجتمعية الغربية؟

ثانيتهما: ربط الدولة المدنية الحديثة بعوامل ذات صلة بالتجربة الاوروبية من حيث خلفياتها الدينية ايضا، باعتبار ان جذور العلمانية كما يبين المؤرخ والمفكر الاجتماعي المعروف «مارسال غوشيه» متضمنة في الديانة المسيحية التي تفصل بوضوح ما بين متعلقات الرب ومتعلقات الحاكم، وبذلك تهيئ في ما وراء تحالف المؤسسة الكنسية والسلطة السياسية امكانية الفصل بينهما.

وتذهب بعض الدراسات الأخرى الى ربط المنظومية القيمية للحداثة بأخلاقيات الثيولوجيا الوسيطة، وان كانت هذه الدراسات لم تخل من تبسيط وشطط احيانا في المقارنة والاستنتاج. ولعل نقطة الضعف في هذه المقارنات هي عدم ادراك طابع القطيعة الجذرية الذي تكرسه الحداثة مع العقل الوسيط ومن حيث الرؤية والانماط المعرفية والسلوكية.

ولكن السؤال المطروح بحدة يتعلق في المنحى ذاته بمدى القدرة على بناء دولة مدنية حديثة من منطلق منظومة قيمية مغايرة تضمن الحقوق والمكاسب ذاتها.

اشكالان يستدعيان الوقوف، بعد اجلاء النظر في مكتسبات الحداثة من منظور ناقديها من المفكرين الغربيين.