هل يقتحم بوش الحل .. أم ينزوي في الظل؟

TT

تتجه انظار العالم نحو واشنطون الى خطاب الرئيس بوش الذي من المفترض ان يحدد فيه المسار العملي لتطبيق رؤيته السياسية لقيام الدولة الفلسطينية في ضوء كل المشاورات التي جرت وكان آخرها لقاؤه امس (الاثنين) مع شارون بعد لقاءاته في كامب ديفيد مع الرئيس مبارك، وما صدر عنه من تصريحات تشير الى تقدم طيب قد احرز حول المسار، فضلا عن التأكيد بأن المؤتمر الدولي سيعقد على الارجح الشهر القادم أو الذي يليه على ابعد تقدير.

وقبل الحديث عن تصورات ما هو متوقع ان يصدر عن الرئيس يلزم ان يطلب من اسرائيل ان تنسحب من كل الاراضي الفلسطينية التي اجتاحتها مؤخرا ليس للتأكيد على عدم نقض العهود والالتزامات فحسب، وانما لتكون هناك سلطة فلسطينية فعلا لا قولا وحتى تستطيع تلك السلطة الوفاء بما عليها من التزامات وان تنفذ ما هو مطلوب منها من اصلاحات ادارية وامنية وغير ذلك من انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية.

ولعل مما يؤسف له ان العالم كله يطالب السلطة الفلسطينية بضبط الأمن واجراء اصلاحات دستورية وهيكلية وهي سلطة لا وجود لها على الارض، بل هي سلطة محبوسة في مقراتها وتنهمر عليها القذائف ولا تسلم منها حتى غرفة نوم عرفات! ولا يمل شارون من تكرار عدم اعترافه برئيسها ولا يكف بوش عن ترديد خيبة امله فيه! ويحار المرء في هذه التناقضات وفي الهدف المقصود تحقيقه من ورائها. كيف يراد التعامل معها ولكن من دون رئيسها؟ .. وكيف يمكن ابعاد رئيسها المنتخب من دون الرجوع الى الشعب الفلسطيني؟.. وكيف يمكن الرجوع الى الشعب الفلسطيني تحت مجنزرات الاحتلال؟.. وماذا لو أعاد الشعب انتخابه؟ .. وفوق هذا وذاك هل من الديمقراطية في شيء ان يطلب من الشعب عدم انتخابه او يطلب منه شخصيا عدم ترشيح نفسه. ارجح الاحتمالات ان محاولة حصر القضية كلها في عرفات الهدف منها اما حركة انصرافية عن القضية، او الرغبة في مسح اي عنوان للفلسطينيين يمكن اللجوء اليه للتفاوض او غيره، وبالتالي خلق صراعات داخلية وسط الفلسطينيين طمعا في ان تقود الى حرب اهلية، والادهى من ذلك هو ان المؤتمر الدولي المراد عقده يشاع ان مستوى تمثيله سيخفض الى مستوى وزراء الخارجية رغبة في تحاشي حضور عرفات له! ومن المفارقات المثيرة للدهشة ان المسؤولين الاسرائيليين تتضارب تصريحاتهم حول كيفية القضاء على عرفات، فبعضهم يطالب بمعاودة الهجوم على المقر الرئاسي لقتله، وبعضهم يطالب بطرده، واجهزة مخابراتهم تحذرهم من زيادة شعبيته اذا امعنوا في اذلاله، وحتى بعض القيادات العربية من فرط التركيز على عرفات أخذت تصرح بأنه يمكن ان يتنحى بعد عام أو ان يتحول الى مجرد رئيس فخري مع تأكيدها على ان وجوده في هذه المرحلة مهم باعتباره الاقدر على ابرام اتفاقات يمكن ان يتقبلها القطاع الاعظم من الفلسطينيين! ويعجب المرء ايضا من كل هذا الاهتمام الدولي والعربي باعادة ترتيب وتركيب السلطة الفلسطينية باعتبارها أولوية تتقدم كل الأولويات، بينما اسرائيل دمرت كل مقرات واجهزة هذه السلطة وتولى جيش احتلالها بسط سلطانه على جل مناطقها، ومع ذلك فقد بدأ الالحاح على تغيير عرفات والاجهزة وكأن كل ما لحق بالفلسطينيين تسبب فيه عرفات وليس شارون وجيش احتلاله، او ان تغييره بدا وكأنه بمثابة استسلام لشروط شارون، والمحزن في الامر هو الانعكاسات السلبية التي بدأت تنطبع في اذهان الشعوب الاوروبية والشعب الامريكي من ان عرفات وسلطته ليسوا في مستوى المسؤولية وانما هم سبب الكوارث مع أن الامر غير ذلك، وللأسف لم نعمل بما فيه الكفاية لتبيان الفرق بين التغيير الذي يريده الشعب الفلسطيني ومراميه والدعاية المشوشة والمغرضة التي ارادها اللوبي الصهيوني من وراء الحملة على عرفات.

مهما يكن من الأمر فإننا لا نريد ان ندافع عن عرفات بقدر ما ندافع عن الظرف الذي تواجهه القضية وبالتالي فإن اي انتقاص لمكانة الرجل او تراجع عن التمسك به أو محاولة للضغط عليه كي يتنحى ينبغي ان تكون من المحظورات فهو الزعيم الرمز وهو الأقدر على معالجة الاخطاء بدون املاءات او رضوخ لضغوط خارجية، واحسب ان مسألة اجراء الانتخابات بالرغم من انها ضرورية ينبغي السكوت عنها في الوقت الحاضر، حتى يمكن تجاوز هذا الخلط المتعمد والذي يجري استغلاله للاساءة للقضية الفلسطينية ممثلة في رموزها وانصرافا عن جوهر القضية، ويمكن الاصرار على ربط الانتخابات بالانسحابات وباطلاق المفاوضات السياسية لأن المسارين متلازمان. كما ان تشكيل الحكومة الجديدة يستحسن ان يتم بشكل انتقالي مع السعي الجاد لتشمل جل الشرائح الفلسطينية وفق برنامج محدد يعزز من وحدة الفلسطينيين ويقدم من هم أكفأ وأنزه واكثر قبولا لدى المواطنين في مواقع المسؤولية.

في كل الاحوال ونحن بانتظار خطاب الرئيس الامريكي يمكننا القول ان العرب قد قدموا رؤيتهم في المبادرة العربية للسلام وقد تجاوبوا مع المطالب التي قدمت اليهم، خاصة من الولايات المتحدة وقد افاضوا في تبسيط الكثير من الاجراءات وكل ما من شأنه تيسير انطلاق المفاوضات، علما بأن اسرائيل لم يرشح عنها حتى الآن انها قد تقدمت بأية خطوة في طريق السلام، بل ان كل خطاها تتسارع نحو المزيد من تأجيج نيران الحرب وزيادة التوترات، ومع ذلك فإننا لم نلمس بعد اية ضغوط امريكية مورست عليها بالرغم من انها حتى الآن لم تف بما طالبها به الرئيس الامريكي من انسحاب من الاراضي التي اعادت احتلالها.

لكن الموقف الامريكي الآن في مفترق طرق، إما ان يلتزم بحسم التقدم برؤية واضحة ومحددة لمؤتمر السلام تتسم بما على كل طرف ان يقوم به وخاصة اسرائيل، ويستصحب ذلك آليات وجداول زمنية محددة وصولا الى حلول ناجزة وواضحة لا لبس فيها ولا مجال للمراوغة والابهام، او ان تتستر بأن الأمور لم تتضح بعد وتنحصر في حلول جزئية ومرحلية وساعتها تكون الولايات المتحدة قد فقدت امام كل العرب مصداقيتها، وعليهم جميعا ان يبحثوا عن بدائل لكل ما طرحوه من مبادرات للسلام وقدموه من تنازلات للتطبيع والاستقرار.

لكننا من استقرائنا الاولي لكل الجهد الذي بذل والاهتمام الذي اولته الولايات المتحدة اخيرا والمشاركات التي ساهمت بها اوروبا، واللجنة الرباعية التي رعتها امريكا ممثلة فيها وفي الامم المتحدة وروسيا والاتحاد الاوروبي نحس ان هناك دفعا قويا لمسار السلام وان المؤتمر الدولي الذي يقترب موعد انعقاده سيكون انجازا عظيما.. يستفيد من مؤتمر مدريد بكل ما حوى من ايجابيات وسلبيات.

وفي تقديرنا ان اهم العبر التي يجب ان تؤخذ في الاعتبار تتمثل في جدول زمني يصاحب التنفيذ في اجل معلوم لا يتجاوز الشهور حتى لا نقع في اخطاء وتجارب الماضي التي للاسف تنتهي بنهاية الدورات الرئاسية، سواء كان ذلك بالنسبة للرئاسات الامريكية او الحكومات الاسرائيلية!.

واذا خلصت النوايا واظهرت الولايات المتحدة عزما وحسما فإن الوصول للتسوية العادلة المطلوبة لا يستغرق اكثر من اسابيع معدودة لأن هذه القضية قد قتلت بحثا خلال عقد من الزمان وليس هناك الكثير الذي يستوجب البحث بقدر ما يستوجب الحسم.. وسنرى الدولة العظمى اذا كانت عازمة على الحسم أم مترددة وعاجزة أو غير راغبة من خلال الخطاب المنتظر.