أرواح عاشقة

TT

لا يستطيع أحد أن يدعي العلم بالروح، أو حتى يصف كيمياءها، لان الله اختص بعلمها حيث قال تعالي: «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».

ومن قليل ذلك العلم كان هذا المقال الماثل بين أيديكم.

ماهيـة الروح البعض قال: ان الأرواح نور من نور الله تعالي، وتأويل ذلك قوله عز وجل، في روح سيدنا آدم: «ونفخت فيه من روحي»، وقوله تعالى: «ثم سواه ونفخ فيه من روحه».

ولقد قال تعالى «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».

وروي عن رسول الله نبينا محمد عليه السلام : أن الله خلق خلقه في ظلمة والقى عليهم من نوره» رواه احمد فى مسند (2/176) واخرجه الترمذي في الايمان؟

وفي ما اذا كانت النفس والروح شيئا واحدا أو شيئين مختلفين؟ فكشف سرها العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه «الروح»، حيث أوضح أن النفس غير الروح فللإنسان حياة ونفس وروح:

فالنفس ذكرت في القرآن الكريم «ونهى النفس عن الهوى» وعندما ينام الإنسان تخرج نفسه التي يعقل بها الأشياء ولا تفارق الجسد، بل تخرج كحبل ممتد له شعاع، فترى الرؤيا بالنفس التي خرجت منها، وتبقى الحياة والروح في الجسد، فيتقلب ويتنفس، فإذا تحرك الجسد رجعت إليه نفسه أسرع من طرفة العين، فإذا أراد الله أن يميت الإنسان في المنام، امسك تلك النفس التي خرجت، ولقد قيل عند النوم تصعد النفس إلى فوق، فإذا رأت الرؤيا عادت تخبر الروح فيعلم الإنسان انه قد رأى كذا وكذا. وللعلم فلابن آدم ثلاث أنفس سوف آتي على ذكرها في موضع آخر. أما الأرواح، فهي روحانية خلقت من الملكوت. فإذا صفت رجعت إلى الملكوت، لان الروح تدعو إلى الاخرة، وتؤثرها غير النفس التي هي صورة العبد والهوى والشهوة، والبلاء معجون فيها ولا عدو اكثر عداء لابن آدم من نفسه. في حين ان الروح هي قوه مودعة في البدن، تخرج بموت الإنسان ويتبعها بصره بحيث يراها وهي خارجة منه. ولقد قال بعض من النصارى إن الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وان الخلق بها ابتلى، ولاهوتية هنا نسبة الى اللاهوت وهو مصطلح نصراني يعني الاولوهية بينما الناسوت يعني الانسان. وقد رفض الشيخ ابن تيمية الاخذ بقول لاهوتية وناسوتية بمعناهما عند النصارى، لان في ذلك زندقة، وجعل الآدمي نصفين نصف لاهوت وهو روحه، ونصف ناسوت وهو جسد نصفه ربه ونصفه عبده.

ولقد شاهد النبي محمد عليه السلام الأرواح ليلة الإسراء عن اليمين والشمال واخبر عليه السلام عنها بالقول بان نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة بالجنة. وان أرواح الشهداء في حواصل طير خضر. ولقد قال عز وجل في كتابه «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله اموتا بل احياء عند ربهم يرزقون» وقيل ايضا، والله اعلم، أن الأرواح تكون فوق السماء، وترد القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم والزائر، والشاهد هنا دعاء زيارة القبور، الذي ذكره سيدنا ونبينا محمد عليه السلام عند زيارة القبور «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وأنا ان شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية».

شقاء الأرواح والأنفس وراحتهما وبأن ابن القيم الجوزية حجة في كل ما كتب، فقد جمع رأي الشريعة وحكمتها إلى فلسفة الحب وآراء الناس، في كتابة «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» حيث قسم الأنفس ومحابيها على حسب ما جاء في الشريعة، ويكون تفسيره لذلك خير تفسير، حيث ذكر في وصف النفوس الثلاثة:

نفس سماوية علوية، محبتها منصرفة إلى المعارف واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. وهي مشغولة بما يقربها من الرفيق الأعلى، وذلك قوتها وغذاؤها وداؤها فاشتغالها بغيره هو داؤها، وهذه النفس السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبة طبيعية بما مالت إلى اوصافهم واخلاقهم واعمالهم. فالملائكه اولياء هذا النوع فى الدنيا والاخرة، ويتولون الارشاد والتثبيت له وإلقاء الصواب في لسانهم والاستغفار لهم، وإلقاء السكينة في قلوبهم عند الخوف، وايقاظهم للصلاة اذا ناموا. وقد قال الله تعالى «ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنه التي كنتم توعدون نحن أولياؤهم في الحياة الدنيا والاخرة ولكم فيها ما تشتهي انفسكم ولكم فيها ما توعدون من غفور رحيم».

النفس السبعية الغضيبة ومحبتها منصرفة الى القهر والبغي والعلو في الارض والتكبر والرئاسه على الناس بالباطل، فلذتها في ذلك وشغفها به. والشياطين اولياء هذا النوع يخرجونهم من النور الى الظلمات. فلقد قال تعالى: «ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا».

وبين نفوس هذا النوع وبين الشاطين، مناسبة طبيعية، بها مالت إليه اوصافهم وأخلاقهم واعمالهم. فالشياطين تتولاهم بعكس ما تتولى الملائكة للنفس العلوية، إلى المعاصي ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام غير المفيد كما يشاركهم فى مأكلهم ومشربهم وينامون معهم ويجامعون معهم والعياذ بالله.

آما النفس الحيوانية الشهوانية، فهي أرضية سفلية لا تبالي بغير شهوتها ولا تريد سواها، فمحبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والمنكح، وربما جمعت الأمرين النفس الشهوانية والغضبية معا، فانصرفت محبتها الى العلو في الارض والفساد، ولقد قال عز وجل «تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعقبة للمتقين».

عشق الأرواح.. تلاقي الانفس وفي هذا قالوا وأطالوا. ان علامات المحبة قائمة في كل نوع بحسب محبوبه ومراده، خاصة ان سلمنا أن أجزاء النفوس مقسومة في هذه الخليقة ومتى ما تألفت تلاقت الأرواح واتحد مراد المحب بالمحبوب بطريقة بعيدة عن قبح المعصية. فعبر الزواج يكون الاتحاد الصحيح للهوى، وهو ميل الطبع إلى ما يلائمه، وسمي هوى لانه يهوى بصاحبه فمطلقه يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، وعليه جاء الإسلام فهذبه. وقال رسول الله محمد عليه السلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

وبعد أن علمنا سر ذلك التلاقي والاندماج بين المخلوقات، وتفسير الشعور العميق بالعشق والاتحاد العاطفي، نستعير قول ابن حزم، في كتابه «طوق الحمامة في الالفة والآلاف: «انك لا تجد اثنين يتحابان بعشق وولع،الا وبينهم تجانس تام وكثرة اشباه حتى التصق الجزءان، فاصبح حتى حظهما واحدا، وباتت أرواحهم متجاورة ومنجذبة كما لو كانت كالمغناطيس والحديد أو اكثر، فتصبح نفس المحب باحثة عن محبها قاصدة اليه، مشتهية لملاقاته، ومقبلة بالحديث معه دون الإحساس بالوقت. وقال أحد السلف الصالح: «ارواح المؤمنين تتعارف»، حين وصف رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له فى ذلك، فقال: «ما احبني الا وقد وافقته في بعض اخلاقه» ولقد قال محمد عليه السلام: «الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». وقوله عليه السلام في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على الارواح تتلاقي وتتشام كما تشام الخيل وتتقدم.

وعليه يعد الملتقون بأرواحهم من اسعد الناس في حياتهم واكثرهم تعلقا بقلوبهم بشكل أبدي. فمن وجهة نظر ابن حزم، الحب هو اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي، فمتى ما تلاقت سعدت، ومتى ما تباعدت شقيت. ويعد ذلك تفسيرا علميا لظاهرة تجاذب وتنافر الناس في الأرض. أيعشق الإنسان ما لا يرى قال عليه السلام فى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «أن أرواح المؤمن تتلاقي على مسيرة يومين وما رأى أحدهما صاحبه».

وقيل في قرب المحبوب من الروح:

يا مقيما فى خاطري وجناني ***** وبعيدا عن ناظري وعياني! انت الروح وان كنت لست اراها*** فهي ادنى اليّ من كل داني وللشاعر الضرير الذي لا يبصر، أبو العز موفق الدين المصري، ديوان شعر رائق. ومن شعره:

قالوا، عشقت وأنت أعمى ظبيا كحيل الطرف المى وحلاه ما عينتها فتقول: قد شغلتك هما وخياله بك في المنام فمــ ــا اطاف، ولا ألما من أين أرسل للفؤاد وانت لم تنظره سهما وبأي جارحة وصلت لوصفه نثرا ونظما فأجبت: اني موسى العشق: انصاتا وفهما أهوى بجارحة السماع ولا أرى ذاك المسمى وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فهذه الأبيات تذكرنا بقول ضرير آخر: يا قوم ، ما أعجب هذا الضرير؟! أيعشق الانسان ما لا يري؟

فقتل ـ والدمع بعيني غزير ان لم تكن عين رأيت شخصها فانها قد مثلت في الضمير ومن قبلهما قال بشار:

يا قوم، أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا [email protected]