المطلوب من «أهل العقد والحل»!

TT

أعنف حملة تشويه واجهها الإسلام، العقيدة والحضارة والمجتمع، جاءت بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، فالتشكيك وصل حدوداً لم يصلها من قبل، على الأقل في سنوات القرن العشرين كلها، فالإعلام الذي تسلح بنظريات «فاكوياما» وأمثاله، حشد كل ما يعزز قناعة الغرب بأن أسامة بن لادن هو الصورة الحقيقية لهذا الدين السمح والمتسامح الحنيف.

وإزاء ذلك فإن الرد الذي سمعه الغرب كان مجرد خطب انفعالية تصب كلها في نظرية «صراع الحضارات»، ولم يبادر علماء الدين المسلمون ولا الأحزاب والحركات والتنظيمات التي تنشط وتتحرك سياسياً تحت غطاء الإسلام، اللهم باستثناء استثناءات قليلة جداً، للاستفادة مما لدى العرب والمسلمين من إمكانيات للذود عن دينهم وعن عقيدتهم وحضارتهم.

لم نسمع حتى الآن أي رأي متماسك، يصدر عن ندوة متخصصة أو عن مؤتمر جاد يحضره أهل العلم ولا يكون للاستعراض، كما نرى ونسمع في الفضائيات العربية، حول أولاً ظاهرة العنف الأهوج الذي اجتاح صورة الإسلام والحضارة الإسلامية في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبدايات هذا القرن الجديد، وثانيا بالنسبة لحملة التشويه المقصودة التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر من السنة الفائتة.

كل ما قيل أو معظمه كان إما تخندقاً في المواقع والمواقف القديمة واجتراراً لكلام لم يعد مقنعاً، لا لنا ولا للرأي العام الغربي، واما بالرد على الإعلام الغربي وعلى «فاكوياما» وغيره بتكرار ما كنا قلناه مراراً، وهو إن الإسلام مستهدف وإن الغرب إمبريالي وشيطان أخرس، وإن الولايات المتحدة «الطاغوت الأكبر»، وإن هناك حملة صليبية جديدة ضد هذه المنطقة، وإن إسرائيل تشكل رأس الحربة لهذه الحملة.

صحيح ان الإسلام استُهدف بهذه الصورة بعد انتهاء الحرب الباردة وتوقف الصراع بين الغرب والشرق، وبعد أن استخدم الغرب والولايات المتحدة تحديداً، الإسلام، استخداماً اتضحت صوره وأشكاله بوضوح لا يحتاج إلى براهين في أفغانستان، لكن المطلوب من الأحزاب والحركات الإسلامية ومن الذين ينطقون باسم هذا الدين الحنيف أن يقولوا لماذا هذا الاستهداف، وما هي أسبابه، وبكل صراحة وبعيداً عن الأساليب النقلية التبريرية المعروفة؟..

سمعنا كلاماً وسمعه الغرب، من أشخاص لجأوا إلى بريطانيا والولايات المتحدة خلال شهر العسل الأميركي ـ «الاسلاموي»، يفتقر إلى المصداقية، وأول دليل على عدم مصداقيته أن هؤلاء الذين يقولونه كانوا جنوداً في فيالق الـ «سي. آي. ايه» والـ «M. I. 6»، خلال حرب افغانستان الأولى، وهم يعيشون الآن عالة على فتات موائد الدول الغربية ويستغلون استغلالاً بشعاً قوانين حقوق الإنسان والديمقراطية في هذه الدول الغربية.

جميع الذين لجأوا إلى الغرب، يوم كانت الولايات المتحدة ومعها دول غربية أخرى، بريطانيا وألمانيا، على سبيل المثال، تنشئ أحزاباً وتنظيمات إسلامية وتبرز «عباقرة»، مثل هؤلاء المعروفة أسماؤهم والذين احتلوا شاشات الفضائيات بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم يقولوا إلا ما عزّز الصورة المشوهة للإسلام في عيون الغربيين وما جعلنا نحن، أهل هذا الدين الحنيف، نُصاب بالارتباك والحيرة.

هل يعقل ان يبقى الغرب لا يسمع غير ما يصدر من أنغام عن الاسطوانة المشروخة للذين لجأوا إليه والذين تحالف معهم في ذروة احتدام الحرب الباردة.. وهل يعقل أن نرى كل هذا التطرف، الذي يخبط خبط عشواء، باسم ديننا السمح الحنيف ونبقى لا نسمع سوى القديم الذي تجاوزه الزمن والذي من المفترض أن مستجدات العصر أسقطته؟..

منذ احتدام حملة التشويه ضد الإسلام، العقيدة والحضارة والمجتمع، بقينا ننتظر مبادرة على مستوى التحدي لوضع الأمر في نصابه وتحديد الأخطاء التي ارتكبناها والتي أفرزت هذا التطرف، الذي بقي يتوالد ويتكاثر ويغزو المجتمعات الإسلامية نفسها، على غرار ما جرى وما يجري في الجزائر، لكننا لم نسمع سوى اجترار المنقول غير المقنع ولم نر سوى استغلال دماء الفلسطينيين لصب الزيت على النار وتأجيج نيران التطرف في المجتمعات الإسلامية نفسها.

هناك اتفاق، لا داعي للحديث عنه كل يوم، على أن الغرب الذي تحالف أيام الحرب الباردة مع حركات وتيارات الإسلام السياسي التي أنشأها والتي أُنشئت سابقاً، ما لبث أن انقلب على هذه التيارات والحركات، بل وأخذ يعتبرها الخطر الجديد الذي يهدد الحضارة الغربية بعد زوال الاتحاد السوفياتي وسقوط المعسكر الاشتراكي. فبرزت ظاهرة أسامة بن لادن والقاعدة وطالبان والملا عمر بفجاجتها وجهلها، بالدين الإسلامي أولاً، ودمويتها وتخلفها الذي لا مثيل له ثانياً.

لا حاجة للاستمرار بالحديث عن أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة ناصب الإسلام العداء بعد أن قضى حاجته من تيارات ومنظمات الإسلام السياسي أيام الحرب الباردة، فهذه مسألة لا يختلف عليها اثنان من أبناء هذه المنطقة من العالم، والمفترض أن رجال الفكر والفلسفة الذين يركزون اهتمامهم على القضايا الإسلامية بادروا بعد الحادي عشر من سبتمبر إلى وقفة جادة بعيدة عن السطحية وعن إغراء الشاشات الفضائية لإعادة النظر بكل هذه المفاهيم والقيم التي غزت الدين الإسلامي في العقود الأخيرة من القرن الماضي وأفرزت هذا الوباء الجهنمي الذي نراه في الجزائر والذي رأيناه في أفغانستان والذي يُعسعس كالجمر تحت الرماد في دول عربية وإسلامية كثيرة.

هناك أسباب معروفة تقف خلف جانب من جوانب ظاهرة العنف والتطرف التي غدت صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، ومن بين هذه الأسباب القمع الشديد وكمّ الأفواه ومصادرة الحريات العامة ورفض الآخر وعدم السماح له بالتعبير عن وجهة نظره ومحاربة التوجهات الإسلامية، حتى المعتدلة وغير السياسية، باسم الثورية والتقدم والعلمانية والتماشي مع الحضارة والتقدم.

هذه أمور معروفة، كما أنه معروف أيضاً أن الانحياز الغربي، الأميركي بالأساس، إلى جانب إسرائيل انحيازاً كاملاً، دفع الكثير من حركات وتنظيمات الإسلام السياسي إلى استغلال هذا الأمر والدخول مع الولايات المتحدة والغرب عموماً في معركة لا علاقة لها بالأساس لا بالقدس ولا بفلسطين، وصلت حتى حدود ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر وربما تصل في المستقبل إلى ما هو أبعد من هذه الحدود.

إن ما نحن بحاجة إليه هو منع الجهلة من الافتاء باسم الإسلام وهو التصدي للتيارات «التكفيرية» الطارئة على هذا الدين الحنيف وإيقافها عند حدها وهذه التيارات هي التي اتكأ عليها أسامة بن لادن ويتكئ عليها القتلة الذين يعيثون فساداً في الجزائر.

إن الحديث في هذا المجال لا يشمل لا «حماس» ولا «الجهاد الإسلامي» ولا «الشيشان»، لكنه يشمل بالتأكيد جماعة «أبوسياف» في الفلبين، ويشمل الذين كفّروا المجتمع المصري ولجأوا إلى السلاح والمتفجرات لـ «إصلاحه»!، كما يشمل العديد من التنظيمات المشوهة والمنحرفة التي تشن حرباً على الغرب بعد أن تحالفت معه وتحالف معها لسنوات طويلة.

هناك جدل محتدم حول العمليات الفدائية في فلسطين، البعض يعتبرها «استشهادية» وآخرون يقولون إنها «انتحارية»، وحقيقة أن هذا الجدل مقبول على اعتبار أنه بالإمكان إدراج هذه العمليات تحت بند «جهاد الدفع»، فالفلسطينيون أرضهم محتلة وكرامتهم مستباحة، وإسرائيل تواصل ذبح أطفالهم وهدم منازلهم.. وحتى القوانين الوضعية فإنها تبيح للشعب المحتلة أرضه أن يستخدم كل أشكال المقاومة لدحر الاحتلال عن وطنه.

لكن هنا فإن ما يجب أن يستمر الجدل حوله أيضاً، هو تقدير الضرر الذي قد تلحقه كل عملية من هذه العمليات بالقضية الفلسطينية، وبخاصة في ظروف معقدة وشائكة ومتداخلة كالظروف التي تحيط بقضية الشعب الفلسطيني، وهو أيضاً ضرورة أن يكون هناك تفاهم وتوزيع أدوار بين السلطة الوطنية وحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، على وجه التحديد، حتى لا يقع ما نراه يومياً في مدن وقرى الضفة الغربية.

من حق الفلسطينيين أن يواجهوا الظلم بكل أشكال المواجهة، فهذا هو «جهاد الدفع» الذي تحدث عنه المشرعون المسلمون، لكن ما يجب التنبه إليه هو أن لا يُستغل هذا الأمر من قبل دول وجهات خارجية لدوافع إقليمية وأغراض خاصة ليس لها علاقة بفلسطين ولا بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.

هناك مسألتان لا بد من إيضاحهما، كي لا تبقى هذه الصورة البشعة هي صورة الإسلام لدى الغرب كله، وكي لا نبقى نحن، أهل هذا الدين الحنيف مشوشين ومزعزعين، هما: المسألة الأولى ضرورة حسم قضية «التكفير» التي وفدت إلينا نحو منتصف القرن الماضي من الهند، واتكأت عليها كل تيارات العنف والتطرف في الجزائر وفي مصر وفي سوريا، في وقت من الأوقات، وفي اليمن وعدد من الدول الإسلامية.

هذه هي المسألة الأولى، التي تحتاج إلى حسم ومواجهة منطقية وموضوعية من قبل أهل الفكر والحل والعقد من علماء المسلمين.

أما المسألة الثانية، فهي «جهاد الطلب»، الذي كان فرض عين على المسلمين يوم كانت الدعوة في بداياتها ويوم كان الإسلام ديناً وحضارة يواجه تحديا، إما الانتشار أو الاضمحلال والتقوقع.

معظم ديار المسلمين، اندونيسيا وماليزيا وكل دول آسيا الوسطى، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وفوقها منطقة القوقاز، لم يصلها الإسلام ويستقر فيها من خلال «جهاد الطلب»، وإنما بالتبشير الصحيح الذي نقله التجار وأولياء الله الصالحون، وما ينطبق على هذه الدول ينطبق على دول غرب افريقيا كلها وبدون استثناء.

إن ما قام به أسامة بن لادن في الحادي عشر من سبتمبر، لا يمكن ادراجه لا في باب «جهاد الدفع» ولا في باب «جهاد الطلب»، والحقيقة أن هذا العمل الإجرامي المغامر قد أساء للدعوة الإسلامية التي تنتشر في الغرب وفي الولايات المتحدة بالموعظة الحسنة والتي حققت نجاحات كبيرة في سنوات النصف الأخير من القرن الماضي. وهذا ما يجب أن يتوقف عنده الفلاسفة والعلماء المسلمون، ويقولوا رأيهم بعيداً عن شاشات الفضائيات.