أفغانستان .. كيف تعود مياه الجداول إلى النهر ثانية؟

TT

مع بدء الـ«لويا جيرغا»، بمداولاته، تذكرت تلك الحكمة التقليدية: «ان يحدث الشيء متأخرا، أفضل من ان لا يحدث أبدا».

كان مقررا لهذا المجلس أن ينعقد في شهر مارس (آذار) الماضي، مع حلول نوروز، الذي يعتبر بداية السنة الجديدة، بالنسبة للأفغانيين، لكن اتضحت، بعد فترة قصيرة، الحاجة إلى مزيد من الوقت لتحقيق توسيع أفضل لعدد المشاركين في (المجلس الأعلى)، لضمان مشاركة جميع ممثلي الفئات الأثنية، إضافة إلى انضمام وجوه دينية وسياسية بارزة، وبهذا يتم ضمان تمثيل التنوع الثري للمجتمع الأفغاني في هذا المؤتمر.

يحب الملك السابق، ظاهر محمد شاه، أن يصف أفغانستان بـ«النهر الذي تصب فيه جداول كثيرة». لكن ذلك كان قبل أكثر من ثلاثة عقود، حينما كانت أفغانستان تعيش حالة سلام مع نفسها. فبعد ربع قرن من حلول البلاء في ربوعها، تحولت أفغانستان إلى نهر بلا مياه وقد توقفت جداوله عن صب المياه فيه، بدلا من ذلك، حلت كارثة التصحر على قاعه.

كانت مشاعر الغيرة حاضرة دائما في الخلفية السياسية لأفغانستان، سواء كانت ذات طابع أثني أو قبلي أو طائفي، لكنها ظهرت إلى السطح، الان فقط، لتحتل المقاعد الأمامية، في خطابات بعض القادة. فزعماء البشتون القبليون وبعض المثقفين المتأثرين بالثقافة الغربية، راحوا يشتكون من هيمنة الطاجيك على الحكومة المؤقتة، أما المندوبون الطاجيكيون، فاعلنوا، بشكل مكشوف، عن مخاوفهم من أن تسعى واشنطن إلى حرمانهم من حصتهم في السلطة سعيا لإرضاء البشتون.

اعتبر الطاجيكيون تعيين الولايات المتحدة الأكاديمي، زالماي خليل زاد، المنتمي إلى البشتون، كبيرا لممثليها في كابل، كمبادرة معادية للطاجيك، أقدمت عليها الإدارة الأميركية. لكن الولايات المتحدة، والحق يقال، ليس في حوزتها أي سياسة خاصة بأفغانستان، وهنا يكمن الخطر الحقيقي.

إذ على الرغم من تأكيد إدارة بوش على أنها لن تترك أفغانستان، مثلما فعلت الإدارات الأميركية السابقة، بعد إخراج القوات السوفياتية، في بداية التسعينات. الا ان الولايات المتحدة، انغمرت منذ مارس الماضي، في جهود دبلوماسية معقدة لنقل أكثر المسؤوليات إلى حليفاتها، وخصوصا بريطانيا وتركيا. ومساع من هذا النوع محكوم عليها بالفشل، وفي حال فشلها ستدخل أفغانستان، من جديد، دوامة الأزمة.

يبدو، أن الطريقة الوحيدة، التي يمكن من خلالها مساعدة أفغانستان كي تبني مستقبلها بسلام، تتمثل بقيام الولايات المتحدة، بفرض ضغط على الـ«لويا جيرغا» لتطوير نظام دستوري ديمقراطي يعكس التنوع الأفغاني.

فتجربة ألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، تقدم دروسا كثيرة لمشاركة الولايات المتحدة الحالية في الشأن الأفغاني. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحملت المسؤولية بشكل مباشر، حتى في كتابة الدستورين للبلدين المحتلين، وتدريب كوادر سياسية جديدة، لتحل محل الفئات السابقة، إضافة إلى تفكيك النظام الاقتصادي الذي كان سائدا في ألمانيا واليابان، والذي كان تحت الهيمنة الحكومية، منذ عصر بسمارك وميجي في القرن التاسع عشر، بدلا من ذلك فرضت نظاما ليبراليا وفتحت أسواق البلدين. ولذلك يمكن اعتبار تجربتي اليابان وألمانيا من أفضل التجارب الناجحة للولايات المتحدة في القرن العشرين. فكلا البلدين أصبحا يتمتعان بالسلام والديمقراطية، وأصبحا اليوم قوتين أساسيتين في المجال الاقتصادي على المستوى العالمي.

من المؤكد، أن أفغانستان، ليست اليابان أو ألمانيا قبل نصف قرن. والولايات المتحدة غير مستعدة لوضع أفغانستان تحت وصايتها، لأي فترة زمنية، ولعلها لا تجد في هذا البلد ما يلبي مصالحها القومية، مقابل المخاطر التي تنتظرها نتيجة مشاركتها بالشأن الأفغاني.

هذا لا يعني أن على الولايات المتحدة أن تفك ارتباطها من عملية التغيير في أفغانستان، إذ أنها تشكل، على المدى القصير، القوة الوحيدة التي تستمع لها كل الفئات الاثنية والأحزاب في أفغانستان.

حاليا، هناك مصدران للخوف بالنسبة للأفغان. الأول، يكمن في أن الولايات المتحدة قد تترك البلاد بوقت أقرب مما أعلنته. وإذا حدث ذلك، ستسقط أفغانستان مرة أخرى في كنف التنافس بين جاراتها. فحتى الآن كان للوجود الأميركي، تأثير قوي على إيران وباكستان والصين وروسيا والهند وأوزبكستان وطاجكستان، منعها من ممارسة دورها في تنشيط الفئات الاثنية الأفغانية كلا حسب ولائه لهذا البلد أو ذاك. فالولايات المتحدة، بكل بساطة، دولة جد قوية، ولها شعبية كبيرة داخل أفغانستان، لكل هذه الأسباب لا تستطيع هذه البلدان أن تتحدى الولايات المتحدة بخصوص سياستها تجاه أفغانستان. لكن حال مغادرتها لأفغانستان، سيصبح ممكنا البدء من جديد في ممارسة «اللعبة الكبرى»، وسيدفع الشعب الأفغاني نتيجة لذلك ثمنا جديدا آخر.

أما مصدر الخوف الثاني فيكمن في أن الولايات المتحدة، قد تستخدم نفوذها الحالي في أفغانستان لفرض نظام حكومي شديد المركزية في كابل تحت سلطة البشتون.

ولمواجهة هذه المخاوف، على إدارة بوش أن تتخذ إجراءات عديدة، اولها: أن يصبح الدور الأميركي في أفغانستان مبنيا على قاعدة الحضور الدائم، من خلال عقد مجموعة اتفاقيات مع أفغانستان، أو على شكل نتائج التحقيقات الرئاسية. وهذا سيبعث بإشارة قوية إلى جارات أفغانستان، بأن الولايات المتحدة على استعداد للعودة إلى المشهد الأفغاني لمنع الآخرين من التدخل في صياغته.

كذلك، على واشنطن، أن تسعى إلى أن تكتب، أو تشارك في صياغة الدستور الأفغاني الجديد. ويجب أن يهدف الدستور الجديد إلى خلق الهياكل الديمقراطية، التي ستوفر المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن خلفيتهم الاثنية، أو إن كانوا رجالا أم نساء، وضمان حقوق الانسان. وحاليا، بدأ آلاف الأفغان، الذين عاشوا خلال العقود الأخيرة في الولايات المتحدة، بالعودة إلى بلادهم، وبإمكانهم أن يغطوا جزءاً من الكوادر المطلوبة للحياة السياسية الجديدة، على الأقل بما يخص البرلمان المستقبلي والكوادر الحكومية الوسطى.

نجاح الولايات المتحدة في اليابان وألمانيا، اصبح ممكنا، جزئيا على الاقل، بسبب حقيقة ان النظامين الجديدين عكسا حقائق واقعيهما. فألمانيا تحولت إلى جمهورية فيدرالية، وبذلك فهي تعكس تاريخا طويلا من التنوع (لم تصبح ألمانيا بلدا واحدا الا في سنوات السبعينات من القرن التاسع عشر على يد بسمارك)، بينما اتبعت الولايات المتحدة، في اليابان سياسة مركزية الحكم الذي يعكس تاريخ هذا البلد.

لذلك، فان إقامة نظام فيدرالي في أفغانستان سيعكس الواقع والحاجات الحالية لهذا البلد. فالجداول التي أقصيت عن النهر لفترة تزيد عن ربع قرن لا يمكن أن تعود بالقوة، إذ يمكن إعادتها إلى النهر الرئيسي عبر نظام يضمن الحفاظ على هوية كل منها وما يطمح اليه. وهذا يعني ظهور دولة فيدرالية في أفغانستان. ومن الأفضل أن تكون تحت حكم ظاهر شاه، طالما هو ما زال على قيد الحياة.