حارة الكون تتسع لصديقين بدلا من واحد

TT

أجدني مضطرا قبل الانهماك في الغزل الموسكوفي، ان اكرر قناعتي القديمة دوما بان الارض لن تتحول الى (جنة) لو قام «فاعل خير!» باغتيال امريكا ذات صباح، لكن الارض ايضا لن تتحول الى (جحيم) لو ماتت امريكا بالسكتة! إذاً ما الحكاية؟

الحكاية ان امريكا الآن بحكم انها الاقوى بين دول العالم، تمارس دورها الطبيعي ـ وليس حقها الطبيعي ـ في فرض سياستها ومعاييرها الخاصة بها على الآخرين. هذا ليس تبريرا لاخلاقيات امريكا، لكنه تفسير لها. هل يعني هذا ان يكون موقفنا ازاء هيمنة امريكا هو: محاولة التبرير «التأمرك»، او محاولة الاغتيال «التعنف» فقط! ان السياسة كمفهوم، يتيح لك التعامل مع احداث الكون في مساحة تمتد من شرق الارض حتى غربها، ومن شمالها حتى جنوبها، بل وامتدادا رأسيا من اعلى الارض «الاقمار الصناعية وما حولها».. حتى اسفلها «النفط وما جاوره».

اذا كنت طفلا تقلقك تهديدات وضغوط طفل الجيران الاقوى منك، فإن هناك طرقا عديدة للحد من هذا التهديد تتجاوز مجرد الانسحاب من مسرح الحارة، والانزواء مسجونا في بيتك في انتظار موت الطفل الجبار! الحياة لعبة اطفال كبار، كانوا في طفولتهم يلعبون بالالعاب النارية، ثم كبروا واستمروا يلعبون بالصواريخ النووية، وابن الحارة الصغير ما يزال منزويا في بيته يخشى صاروخا نوويا.

* * * هل يكفي هذا لايضاح إشكال وتبعات تفرد بطل واحد بالهيمنة على الحارة.. حارة الكون التي تتسع وتضيق، تتطور وتتوحش، تتقارب وتتباعد.

كان الاتحاد السوفياتي يؤدي دورا لم يدرك حجمه الا بعد موته، فهل عُدم الكون من بديل يؤدي نفس الدور التوازني المفقود الآن؟

لقد اتاحت لي مدة اقامتي المؤقتة في موسكو خلال الاربعة اشهر الماضية وما سأضيفه لها خلال الشهرين القادمين باذن الله، التعرف على روسيا عن قرب، والاطلاع على القواسم المشتركة بين الشعبين الروسي والعربي، والحضارتين الاوراسية والاسلامية، مما كان مغيبا عنا بيد الاعلام الحار للحرب الباردة.

قد يقال: ما جدوى الحديث الآن عن رجل ميت، وقد تعود الناس دوما مدح الميت وذم الحي! لكني الآن لا اتحدث عن الاتحاد السوفياتي الميت، بل عن روسيا الحية، ولا اريد ان انساق وراء المتباكين على الاتحاد السوفياتي، الذين وصفتهم صحيفة «فريميا نوفوستيه» الروسية بالقول: (العرب بحاجة الى الاتحاد السوفياتي، والامريكان بحاجة الى روسيا). فالشق الاول من العبارة يقوم على انتظار ما لا يجيء، لكن الشق الثاني من العبارة يحمل ديناميكية قابلة للتوليد، فاذا كانت امريكا ـ بجلالة قدرها! ـ بحاجة الى روسيا، فإن هيكل روسيا العظمى ما زال بلا شك يحمل لحما حيا قابلا للانقسام والنمو.

هذا يقودنا الى سؤال ممجوج: هل يجب ان نضع بيضنا كله في سلة واحدة، سلة امريكا؟! قد يتبعه جواب اكثر مجاجة وهو ان سلة روسيا مخرومة، لكني سأجرؤ وأقول انني مستعد للمساهمة في ترقيع السلة المخرومة ما دام ان لي مصلحة مشتركة في ترقيعها.

* * * كنا نشعر لسنوات طويلة ان موسكو تقع في اقصى الارض، وان واشنطن هي المحطة الاولى لنا في طريقنا الطويل نحو موسكو. وقد لمست هذا بنفسي حين سافرت الى موسكو للمرة الاولى، وفوجئت ـ وفوجئ الذين سألوني عن الرحلة من بعد ـ بأن موسكو لا تبعد عنا اكثر من خمس ساعات طيرانا، اي انها اقرب الينا من بعض الدول العربية! هل القرب الجغرافي وحده يكفي، ان مفاصل عديدة من القرب المعنوي تطغى بكثير على القرب الحسي، فعلاقة روسيا بالاسلام تقارب ألف سنة، اي قبل اكتشاف امريكا ذاتها. والمسلمون يشكلون قرابة 28% من مجموع السكان في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، ويتجاوز عددهم الثمانين مليونا يساهمون مع غيرهم من الشعوب السلافية، في تكوين توليفة متعددة الثقافات والاعراق لسكان تلك المنطقة الشاسعة من العالم. والآن بعد ذوبان الاتحاد السوفياتي ما زال يقطن روسيا الاتحادية قرابة 25 مليون مسلم، وفي موسكو وحدها قرابة مليون مسلم. اما على الصعيد الثقافي فقد بدأ تدريس اللغة العربية في جامعة بطرسبورغ عاصمة الامبراطورية الروسية عام 1819. وفي هذه المدينة وحدها تتوفر قرابة عشرة آلاف مخطوطة عربية مصنفة ومفهرسة، هذا عدا الحديث المكرور عن تأثر الادباء العالميين الروس بالثقافة الاسلامية امثال الشاعر بوشكين والروائيين تولستوي وليرمنتوف وغيرهما.

اما على الجانب السياسي فلا يغيب عن البال ان الاتحاد السوفياتي هو اول دولة في العالم اعترفت بالكيان السعودي في 6 فبراير 1926، تبعها قيام الملك فيصل رحمه الله (الأمير فيصل آنذاك) بزيارة الاتحاد السوفياتي عام 1932. وموقف موسكو من قضية فلسطين ظل في كثير من اطواره موقفا ايجابيا او محايدا على الاقل.

* * * سقت ما سبق، لا محرضا لقطع العلاقات مع امريكا ولكن لتجسير العلاقات بين الدول العربية ودول الخليج خاصة والسعودية بالذات مع روسيا. فنحن ندرك ان روسيا الآن ليست دولة عظمى لكن ربما تكون قادرة على تحقيق دور توازني عظيم في المنطقة، بل الامر قد يتجاوز ذلك، فقد طرح اكثر من كاتب غربي تساؤلا حول ما اذا كانت روسيا ما تزال دولة عظمى؟ ولقد اقر معظمهم بذلك من حيث صناعاتها الحربية وترسانتها النووية، لكن روسيا تملك ايضا من مواصفات «العظمة» مساحتها الشاسعة من اقصى شرق الكرة الارضية ـ باطلالة على الغرب الامريكي ـ الى حدود فنلندا غربا، وحدود روسيا تتاخم قرابة خمس عشرة دولة آسيوية واوروبية شرقا وغربا وجنوبا، اضافة الى تعدد اعراقها وثقافاتها وإرثها التاريخي.

ولقد فطن اليهود حتما الى هذه المؤهلات الروسية فبدأوا يمارسون هوايتهم السياسية والاقتصادية والاعلامية في ارض روسيا الآن. ولولا قناعتهم بالدور الذي يمكن ان تؤديه روسيا لما اهدروا فيها اموالهم واوقاتهم، فاليهود يجيدون اصطياد الفرائس قبل ان تصبح جيفا! وأجاد ذلك بشكل خاص الرئيس الاسرائيلي حين دغدغ مشاعر ووجدانها روسيا ـ اثناء زيارته لها ـ ووصفها بأنها ما تزال دولة عظمى.

* * * ان المكان ما زال متاحا لوقع الخطى العربية، وصيد المشاعر.. «قبل ان تطير (اليهود) بأرزاقها!».

اذ لعبة التوازنات في السياسة هي ابرز اللعبات التي يمكن ان تقوم بها الدول غير المتاح لها ان تقوم بدور البطولة، في حينها. والبيت الذي يفتح على الخارج ببابين اكثر صحة وجمالا وتهوية من البيت الذي يفتح بباب واحد. فلنفتح الباب على موسكو، ولنصعِّد معها الاستثمار السياسي والاقتصادي والثقافي، ولنعزز السفارات العربية في موسكو ونمنحها من القدرات والامكانات ما نمنحه للسفارات العربية في واشنطن.

اذا كانت ابتساماتنا الدبلوماسية في واشنطن قد تضيع وسط ابتسامات وأموال ونفوذ اليهود، فإنك تجد لها في موسكو «عينا» صاغية! مما سيساهم حتما في تحريك احجار القضية الفلسطينية، وكذا القضية الشيشانية على وجه الخصوص، بل ان شكل علاقتنا مع روسيا سيختلف من حيث اننا نحن محتاجون لامريكا، بينما روسيا محتاجة الينا، او على الاقل كلانا محتاج للآخر. وهذا ينبئ عن وضعية الموقف الذي نكونه مع كلا الاتجاهين، فلنجعل علاقتنا مع روسيا تؤدي دور الفزاعة للنسر الامريكي على اقل التقدير! لا يلزمني ان اكرر ما قلته في البداية من انني لست من المسكونين بفوبيا الامبريالية، او البانين امجادهم على الوعد بسقوط امريكا ـ وكأننا الوريثون الوحيدون لما في وصيتها من املاك! ـ لكنني اقول: ان شعورنا بأن لنا صديقين خير لنا من شعورنا بأن لنا عدوا واحدا!

* كاتب سعودي ـ رئيس تحرير مجلة «المعرفة»