متابعات ميدانية للواقع العربي: الانتخابات الجزائرية.. أمل أم سراب؟

TT

[email protected] استعرض الاستاذ هاشم صالح في مقاله الممتع عن «هوسيرل وجوهر الحضارة الغربية» مقولة ان «الحضارة الغربية المعاصرة اصبحت فردوسا موعودا لانها عائلة واحدة، على الرغم من تعدد قومياتها ولغاتها وكثرة حروبها وصراعاتها، فقد تمكنت من خلق الوطن الروحي الذي يتفوق على كل الثقافات الاخرى، بما فيها ثقافات أمم عريقة كالهند والصين»، بما يذكر بفشلنا في استثمار الوطن الواحد الذي توفره اللغة العربية، والتي ناديت بجعلها مركزا للعمل الوحدوي العربي، الذي تشوهه اقليميات مَرَضية حديثة النعمة، اسميناها اللبننة والتونسة والجزأرة.. الخ.

ولقد كان من اسباب تشتت الفكر الوحدوي غياب منهج تعليمي واحد ينهل منه كل طالب عربي من المحيط الى المحيط، مقارنة مع البرامج التعليمية الاجنبية عبر المعمورة.

وراح كل بلد حديث الاستقلال ينافس البلد الآخر في انتاج الكتب المدرسية، وهو امر قد يمكن تفهمه بالنسبة لمادة التاريخ، لأن كل بلد يريد ان يكون صرة الدنيا، وحكامه يريدون ان يكونوا رواد كل شيء يسير او يطير او يغوص في الماء.

وأتساءل، وانا من مدرسة كتاب «النحو الواضح»، كيف لم يدرك المربون عندنا أن تكاثر كتب النحو ليس بالضرورة جهدا علميا يستهدف الابتكار والتطوير بقدر ما يبدو شوفينية حمقاء او مجرد متاجرة علمية على حساب التلميذ والوطن والانتماء، وهو ما ينطبق على الهندسة والكيمياء وحتى الجغرافيا، مما يعني ان النكسات العلمية والقومية نتجت عن شوفينية بعض القيادات، الذين شجعوا اعداد كتب مدرسية تفتقد غالبا العمق القومي الذي يقترب بالتلميذ من الوطن الكبير، والبيداغوجية المتطورة التي تقترب بالتلميذ من المدرسة وبالمنهج من التلميذ.

وانا اشير الى هذا الامر في معرض مواصلة الحديث عن قضية الجالية العربية في المهجر، والتي تشكل المدرسة قاعدة لتوحيد صفوفها وجمع كلمتها، لتصبح دراستنا للمعطيات الاقليمية والدولية عملا منسجما يقود الى نتائج منطقية، تبنى عليها استراتيجية قومية واضحة.

وهكذا يخضع كل شيء للدراسة الجماعية المتبصرة، بعيدا عن نرجسية الابراج العاجية او خطابية بعض المنابر العامة.

ومن ذلك المنطق توقفت عند انتخابات الجزائر، حيث انني، رغم تحفظات تناولتها في حينها، اراها حدثا جديرا بالدراسة والتحليل، لأن هذا جزء من عملية التراكم الذي يبلور التجربة الحضارية للامة، ويمكنها من الاستفادة من الانجازات ومن العثرات على حد سواء.

ولقد عشت اسوأ حملة انتخابية عرفتها، ولا يستطيع معظم منشطي الحملة ان يزعموا انهم كانوا وراء اقناع الجماهير بأي أمر كان، بل ان الحس الشعبي التلقائي هو الذي انتصر في نهاية الامر، مشاركة او امتناعا.

ولا بد من الاعتراف بأن التدني النسبي للمشاركة الشعبية في الانتخابات الجزائرية سببه خيبة أمل عامة، ساهمت في تضخيمها مكبرات صوت اعلامية تردد نقيق تشكيلات مجهرية واقليات فكرية، سيطرت بحكم النكسة على الساحة الاعلامية.

وبدون اي مقارنة مع حجم الامتناع الكبير عن التصويت في الانتخابات التشريعية الفرنسية ارفض اتهامي بالقسوة في الحكم على الانتخابات الجزائرية، رغم ان كثيرين يرون بأن تجاوز جدار الخمسين في المائة كاف تماما لتأكيد نجاحها، لكنني من جيل ألِفَ النسب العالية للاجماع الشعبي، مع اعترافي بأنها تعكس وضعيات تاريخية لها خصوصيتها وضرورياتها المرحلية، ولا تقبل التعميم الذي يحول الملحمة الى مهزلة.

وانا اختلف مع من يعطون لشخصيات معينة دورا مباشرا في ضعف المشاركة، بدون ان انفي وجود تأثير غير مباشر، حيث ان مستوى البعض حمل قدرا من الذاتية تجاوز المقبول في ظروف الازمات، وكان هذا من ابرز اسباب خيبة الامل، التي جعلت الطبقة السياسية تبدو كمنطقة تعرضت لاعصار مدمر، لم ينج منه الا ثابت الاسس متين البنيان.

والواقع هو ان الطبقة السياسية عكست وضعية الخراب الذي اصاب المجتمع الجزائري وكمجموع نتيجة لكل ما تمخض عن احداث اكتوبر 1988، وبعد ان جرى تحطيم الطبقة الوسطى لحساب شرائح طفيلية ارتبطت بمواقع نفوذ لا تقتصر على المستويات العليا.

وهكذا، وباستثناء ممارسات جديرة بالتقدير الذي عبر عنه الشعب عمليا بأصواته، وفي مقدمتها ممارسات جبهة التحرير وحركة الاصلاح وآخرين، فإن المواطنين اصيبوا بالاحباط امام خطب سياسية اتسم بعضها ببلاغيات تفتقد البلاغة، وبدا البعض الآخر كتصفية لحسابات قديمة.

ولن اضيف الى ذلك ما عرفته البلاد من اغتيالات وتفجيرات في بعض مناطق الوطن، أكدت أن جل العمليات الاجرامية من فعل مجموعات محدودة، تتميز بخفة الحركة ودقة التنظيم واختيار التوقيت، وهو ما يجدد التساؤلات عمن يقف وراءها.

وانا ازعم ان الامتعاض الشعبي كان اساسا رسالة موجهة لرئيس الجمهورية، تشعره بخيبة امل كثيرين يرون بأنه من اقدر السياسيين الموجودين على الساحة.

ولن اجتر ما قيل عن مراكز النفوذ المالي والسياسي التي عرقلت عمل الرئيس، فهو المسؤول الاول عن عدم مواجهتها بالاسلوب المناسب وفي الوقت المناسب، رغم انني اتفهم العقدة التي جعلته يرفض التصرف بما قد يفسر كنوع من الجحود، وهو الرجل الذي عانى من الجحود.

ولعلي أذكر ان التاريخ لا يعيد نفسه كما يعاد بث الافلام القديمة، وهو ما يعني انه اذا كان هناك محمد علي باشا، فالآخرون ليسوا بالضرورة من المماليك.

وانا ازعم ان اهم اسباب خيبة الامل تتمثل في تراجع الرئيس عن قراره باحالة قضية الامازيغية الى استفتاء شعبي، والاكتفاء بمصادقة برلمانية لم يسمح فيها بأي نقاش واسع او معمق، وقيل فيها وعنها الكثير.

خيبة الامل تلك كانت عملة ذات وجهين، احدهما احساس الجماهير بأن الرئيس قدم تنازلات ليس من حقه، تاريخيا، ان يقدمها، رغم وجود مبرر سياسي لا يمكن تجاهله.

ولقد تحول هذا الاحساس الى نوع من التشفي عند بعض البسطاء، عندما لم تتفهم العناصر المتشنجة خطورة المبادرات التي تحمل الرئيس مسؤوليتها بكل شجاعة، ومن رصيد عزته الشخصية وعلى حساب وعوده للشعب كله، وذلك لتفادي وضعية تصعيد قد تؤدي الى تداعيات دموية بالغة الخطورة.

وهكذا كان وراء مقاطعة كثيرين ادانة دسترة الامازيغية بدون استفتاء، بينما رفض آخرون المقاطعة نكاية في دعاة المقاطعة، وامتنع آخرون عن التصويت لانهم كانوا يريدون حزما اكثر في مواجهة من تطاولوا على هيبة الدولة والقوا الاحجار على موكب الرئيس.

وكان هذا اكثر وجهي العملة سوءا، حيث قدم التسامح والتفهم كهزيمة للدولة امام مثيري الشغب، وهو ما اكد سوء نية المحرضين وقصر نظر المنفذين، واعاد الى الاذهان، برد فعل تلقائي غير مقصود، ما حدث في الطائف منذ اكثر من 14 قرنا.

وأتصور ان النزاهة الفكرية تفرض الاعتراف بأن المقاطعة الجهوية، رغم ما صاحبها من اعمال شغب وتخريب، ادانت مرتكبيها شعبيا، ولم تؤد الى اعلان الاحكام العرفية في المنطقة، بما يبرر تدخلات خارجية كانت تعد لذلك وتستعد له.

وكان هذا انتصارا له ما وراءه.

ولم تنجح حركة المقاطعة في المساس بتمثيل البرلمان لكل ولايات الجمهورية، بدليل تصريحات منتخبي نفس المنطقة، مع التذكير بأن مئات الآلاف من ابناء القبائل قاموا بالتصويت عبر ولايات الوطن التي يقيمون بها، بدليل نجاح المرشحين المنتمين اصلا للمنطقة.

ولقد تأكد بأن التيار الاسلامي الواعي راسخ الوجود بعيد النظر وان التيار الوطني قوي الايمان شديد الصبر وان شعبنا ليس بالسذاجة التي يتصورها من يجلسون على مقاعد المتفرجين خارج الحدود.

ويبقى اننى لست راضيا عن كل ما حدث، لكنني اعرف أن الاختيار لم يكن بين الحسن والسيئ.

ويبقى ايضا ان من يتلقى العصي ليس كمن يعدها.

والمراهنة القادمة على الانتخابات البلدية.

* وزير الإعلام والثقافة السابق في الجزائر