الرسم بالجذور

TT

نزلت مؤخراً في فندق جبلي يملكه رجل كان صديقاً لوالدي. وفي الصباح استضافني على شرفة الفندق على فطور من «حواضر البيت». وحواضر البيت في قرى لبنان هي اللبنة بالزيت، والصعتر، والزيتون مع النعناع والتين المغلي، والبيض مقلياً باللحم، والفاكهة. وسألت الرجل الذي عمل في افريقيا وتملك العمارات في كندا، ماذا يفعل الآن، واخبرني انه انتهى للتو من زرع 15 الف شجرة صنوبر في اراضيه التي ضربها اليباس والنسيان.

وقد دهشت، وقلت له ان الصنوبر شجر متدلل تيّاه يتلكأ في سنوات طفولته ويتباطأ ما استطاع في الطريق الى البلوغ والنضوج. فقال، اذا كنت تعني انني متقدم في العمر ولن اعيش لأرى هذه الغابة، فجوابي هو جواب الفلاح الكهل الذي قال لكسرى: «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون». اما انا ـ قال ـ فلست ازرع لكي اقطف. انني رجل احب اللوحات ولا اجيد الرسم. وطالما حلمت وانا شاب بوقت امضيه مع الوان اللوحة، لكنني امضيت العمر من ميناء الى ميناء، ومن تجارة الى تجارة ومن ربح الى خسارة. وعندما تقاعدت اخيراً قررت ان ارسم في الارض: حدائق تفاح حيث يعيش التفاح، وحدائق ورد امام البيت، وغابات سنديان وصنوبر وحور، في الاراضي الجرداء حيث الكلفة الوحيدة هي الغرس.

غادرت قريتي ـ قال ـ وليس فيها سوى بضعة بيوت وآلاف الاشجار. ولما عدت رأيت ان جراد الاسمنت قد قضى على مناخها ونقائها كما قضى على معظم لبنان. فالناس تعتقد ان للشجر مهمة وحيدة هي الثمار ولكن الحقيقة ان ثمرته الاولى هي ترطيب الجو وتحسين المناخ واستدرار الامطار واغناء جواره بشتى انواع الفيتامينات. وفيما يبذل اهل الصحراء ـ قال ـ الطائل من المال من اجل القليل من الظل نمحو نحن الخضرة ونحرق الشجر ونترك الباقي للموت البطيء بالاهمال. وقال ان كل ما بقي لي الآن هو ان اعيش حياتي في متحف الهواء الطلق، في هذا الجو المنفسح، فإذا باكرني الهرم، ففي فيء الدوالي وضوع الورود، يغرد القماري على فجري ويتضرم الشفق امامي كاللوحة التي طالما حلمت بها، حرمت منها على القماش واتمتع بها الآن، عطراً بدل الحبر، ومُحاكِيةً في الفلاة بدل صمت الجدران، كل نسمة تخاطبك، وكل رفة جناح تسرّ اليك، لا يعجلني الزمن ولا اعجّله.

قلت اراك انتقلت من التجارة والناطحات الى الشعر، فهل هذا حال التقاعد في الجبل؟ قال الهدوء يضاعف وقتك، والعزلة عن الاجتماعيات تنظم تدبيرك وتحث تفكيرك، فالناس تأخذ منك التأمل والوحدة تعيده، ولا يعرف قيمة الوقت الا من اصبح في عمري وامره مثل امري، والآن ادرك في داخلي ما معنى ان الدنيا امد والآخرة ابد.

قلت له وما هو الاجمل في لوحات الفلاة هذه؟ قال، الوان الغروب وانا في الكروم، لون داخل لون، وصوت رفيف الاجنحة وقد بدأت الطيور تودع النهار وتأوي الى الغصون، واشعر كأنها جميعاً تمر بي وتريد ان تلامسني بأجنحتها، وتؤدي امامي نوعاً من المشهد الوداعي، فتغرد الحاناً مختلفة عن انواع الصباح. وعند الفجر تعود جميعها الى نافذتي، وتوقظني من جديد، وتعلن شدوا ان المتحف قد فتح ابوابه وشرّع الوانه. هلمّ.