هزيمة 5 يونيو : القصة المعادة

TT

تمتلئ الصحف المصرية بالحديث عن هزيمة يونيو 1967 هذه الايام، وهي عادة ظلت قائمة منذ ذلك التاريخ حتى هذا اليوم. ففي شهر يونيو من كل عام تتابع المقالات في هذه الذكرى الأليمة، ونادرا ما نقرأ شيئا جديدا على الرغم من الاجتهادات الطيبة، فقد تسعف مذكرات شخص من المشاركين أو المعاصرين لتلك الهزيمة فيستند اليها كاتب الصحيفة، أو لا يسعف شيء جديد فنظل ندور في النطاق المعتاد، وهو لوم هذه القيادة أو تلك، أو الدفاع عن اي من القيادات لأسباب «شللية» في الواقع، والى الآن في حدود علمي لم تقم جهة مسؤولة بإجراء تحقيق شامل لمعرفة اسباب الهزيمة، كما فعلت اسرائيل بعد حرب 1973 في تقرير لجنة اجرانات المشهور.

اما الجديد هذا العام فهو الاستناد الى كتاب مؤرخ اسرائيلي هو مايكل اورين الذي روى فيه قصة الحرب من وجهة النظر الاسرائيلية واعتقاده انه منذ ذلك التاريخ تغيرت خريطة الشرق الاوسط، وان هذا التغيير كان احد اهداف حرب 1967 التي شنتها اسرائيل لهذا الغرض.

وعلى الرغم من كل هذا القصور من جانبنا، فينبغي الا نسقط في جحيم «جلد الذات» الذي دأبنا عليه طوال ازماتنا المتلاحقة، والذي كان من نتيجته اعتقاد الشباب العربي بالدونية والنقص، فنحن ادنى من الغربيين وادنى من الاسرائيليين الذين يملكون قوة «قاهرة»، في حين ان انظمتنا فاسدة وحياتنا لا امل فيها.

وبالطبع لا يمكن لأحد ان يتجاهل صحة هذا النقد أو ذاك، بل كثيرا ما نتطلع جميعا الى ظهور حركة نقدية شاملة. أما ان تصبح هذه العيوب جزءا اساسيا في تكويننا الثقافي أو السيكلوجي ومرضا عضالا كامنا لا خلاص منه، فهو الهزيمة الساحقة. وهناك الكثير من الشباب، بل الناضجين، الذين يعتقدون ان احداث الحادي عشر من سبتمبر التي فجرت مركز التجارة العالمي في نيويورك وجزءا من مبنى البنتاجون، لا يمكن ان يقوم بها عرب أو مسلمون لأنها عملية معقدة تحتاج لعلم وخبرة لا تتوافر في العرب والمسلمين. وفي اعقاب الحادثة كتب احد كبار الكتاب المصريين ان ما حدث في ذلك اليوم المشهود لا يمكن ان يقوم به عرب أو مسلمون لقلة كفاءتهم، وربما كان هذا الاعتقاد اخطر علامات الهزيمة الداخلية التي اخترقت النفس العربية واصابتها بذلك الاكتئاب العام الذي لا طريق له الا الانتحار.

والواقع ان الفساد ظاهرة تكاد تكون عامة، خاصة في العالم الثالث الذي لم يتحرر بعد من مرحلة الاستقطاب السياسي والثقافي الذي قامت به الدولتان الكبريان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) اثناء الحرب الباردة، والذي اعتمدت فيه كل منهما على الانقلابات العسكرية لضم هذه الدولة أو تلك الى قائمة حلفائها، وفي هذا الضم لم تراع مبادئ ما إلا قدرة الجهاز الحاكم على المشاركة الى جانب الدولة الحليفة الكبرى عند انتقال الحرب الباردة الى حرب ساخنة وليس مهما بعد ذلك نوع الحكم ولا تقدم هذا المجتمع الا في الحدود التي يكون القرار السياسي فيها سريعا وحرا من أي رقابات تشريعية أو صحافية تعوقه. وهكذا نشأت الانظمة العسكرية الديكتاتورية، ولاقت تشجيعا من الدولة الحليفة الكبرى سواء كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي، وشهد العالم الثالث الوانا من البؤس البشع وقتل الآلاف، وتعذب في السجون عشرات الالوف، وأذكر انني سمعت في احدى خطب زعيم عربي له وزنه، انه ادخل في المعتقلات ستين الف شخص وانه مستعد لأن يزيدهم في ما لو استمر التمرد ضده. وفي امريكا اللاتينية كان الناس يُخنقون من دون ان يعرف اهاليهم اين هم، والى اليوم ما زالت جرائم القتل والتعذيب تفوح روائحها في الكثير من دول امريكا الجنوبية.

انتهت الحرب الباردة، ولكن الانظمة الشريرة ما زالت قائمة وما زال الناس يقاومون فينجحون هنا أو يفشلون هناك. والفساد في العالم الثالث لا يمكن ان يحدث بالصورة التي هو عليها الآن، الا اذا كانت القوى الفاعلة في العالم ـ القوى الكبرى ـ فاسدة هي الاخرى، ونحن في العالم العربي والاسلامي نتحدث كثيرا عن تقدم عالم الكبار وتخلف عالمنا، ولكن الواقع ان المسائل نسبية، فالفساد موجود ايضا في هذا العالم الاكبر والاقوى، وما زالت المبادئ الانسانية القويمة بعيدة عن السياسات الجارية. وما اكثر النقد الذي يوجه الى انظمة المجتمعات في الدول الكبرى.

نعم مجتمعاتنا مليئة بالعيوب وعلينا ان نقوم بحركة نقدية واسعة، ولكن ليس صحيحا اننا بحكم طبيعتنا ـ أو قل ثقافتنا ـ عاجزون عن التقدم. حقا اننا مسؤولون عن ثقافة مكتئبة ومهزومة وتقوم على الخرافة ولا تحترم التفكير العقلاني أو الثقة بالتجربة المعملية، أو الايمان بالنقد باعتباره الطريق الى الاصلاح والتقدم، ولكن العالم الاقوى مشارك ايضا في هذه المسؤولية، ومن الواضح ان الكثير من جوانب هذا العالم في حاجة الى اصلاح، وهو الامر الذي نراه يتحقق في الحركات النقدية القوية التي يشارك فيها كتاب ومفكرون، بل سياسيون مرموقون.

صعوبة «النقد» تنشأ في مجتمعات تكاد كل اجهزة الاعلام والثقافة والتعليم فيها تكون تحت هيمنة الدولة، ويوجهها المشرفون عليها الى دعايات فجة للقيادات السياسية، ومليئة بالاكاذيب، ومتسترة على الاخطاء والمفاسد. بيد ان تغيير هذه الاوضاع اصبح ضرورة، ومع الثورة المعلوماتية سيكون من الصعب على ثقافة الطاعة والخنوع وستر الحقائق ان تستمر.

حقا ان عمليات التصحيح في العالم الثالث اصعب منها في العالم المتقدم، لكنها ضرورية، كما ان الخروج من عقد الإذلال والدونية مسألة جوهرية، لا لأن الشعور بالكرامة أفضل من الشعور بالمهانة، بل لأن بث شعور الاذلال مفتعل وليس صحيحا، ولأن العرب ورثة حضارة عظمى، ويملكون قدرات فائقة كامنة تظهر بين وقت وآخر في هذا الفرد العربي أو ذاك في العالم الذي نصفه بالتقدم.

ورغم مرور خمسة وثلاثين عاما على هزيمة سنة 1967 ما زال الكثير من اسرارها غير معروف في تفصيلاته، وها نحن نرى بعض كتابنا يضطرون الى استقصاء بعض معلوماتهم من كتب يؤلفها اسرائيليون، أو اجانب آخرون. ولست ادري الى متى تظل هذه الحقائق مستورة ولماذا لا تشكل لجنة تحقيق متخصصة تفحص ملف الهزيمة كاملا لنعرف اين القصور. نعم ان هناك كتابات عديدة حول الموضوع، ولكنها جميعا اجتهادات فردية، والى اليوم اعيش تلك التجربة المريرة، وقد حدث ان تكرر امامي مشهد بالغ الغرابة هو المصفحات المضروبة على طول الطريق من القاهرة الى السويس وبورسعيد في حرب سنة 1956 ثم حرب 1967. وكنت اتساءل بيني وبين نفسي: كيف حدث هذا؟

وفي حرب 1973، وهي الحرب الاولى التي تحقق فيها نصف انتصار ونصف هزيمة، لم نكد نقرأ شيئا محققا ايضا. وما زال موضوع «الثغرة» غامضا. كيف حدث، ومن الذي امر بوقف الزحف المصري الذي كان ناجحا؟ ولماذا؟ وهل كان المقصود بحرب 1973 هو تحريك «القضية» وليس تحرير سيناء، كما جرى القول اثناءها؟ وما هي قصة التسليح وتوازن القوة الذي نعلم ـ استنتاجا ـ انه اتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ـ وهو توازن يعني ان تكون اسرائيل قادرة ـ وحدها ـ على مقاومة وهزيمة الجيوش العربية مجتمعة؟ واليوم اصبحت اسرائيل القوة الوحيدة التي تملك سلاحا نوويا. كيف تم هذا؟ وما الذي حدث للمؤسسات الذرية التي انشئت في بداية الستينيات في مصر، وما دور العالم الاكبر في حرمان مصر من قوة ردع مماثلة؟

حقا ان اي انسان عاقل لا يحب ان يتفاخر بامتلاك بلده لقوة دمار شاملة، لكن لماذا اسرائيل وحدها؟ ومن الذي كان وراء ذلك؟ وما الوسائل التي نملكها للدفاع عن بلادنا، وقد هدد شخص شيطاني اسرائيلي بضرب السد العالي واغراق مصر؟ ان اسئلة كثيرة تتردد في الذهن، مثل ما هي حقيقة الوضع بالنسبة لانتاجاتنا المحلية الصناعية، وما الذي حدث في حركة «تدريب القوى العاملة» وهل هناك فعلا حركة من هذا النوع، وهل صحيح ان الكثير من الصناعات القديمة قد اصابها التدهور مثل صناعة المنسوجات القطنية التي نسمع بين وقت وآخر بتدهورها؟ هل المسألة متعلقة بعدم تجديد هذه المصانع، وما هي الخطط الحقيقية لتطويرها؟ وكيف اننا الى الآن لا نصنع «الموتور» (أي المحرك) وما هي الحجج التي تجعل اقصى ما تملكه مصانعنا بالنسبة للآلات المختلفة كالسيارات والجرارات ـ دعك من الدبابات والمصفحات والطائرات ـ هو التركيب او التجميع فقط، مما يجعل تبعيتنا لمصادر هذه العدد كاملة وأشبه بالعبودية وتلعب بها السياسات المختلفة؟ وما هي قصة الزراعة في مصر، وكيف تمتلئ الحقول بخبراء اسرائيليين؟ هل هذا صحيح؟ وما بيانه بالضبط؟ ولماذا في بلد عمره اكثر من سبعة آلاف سنة يعيش على الزراعة نلجأ الى الخبرة الاسرائيلية أو غيرها؟

كل هذه القضايا تحتاج الى دراسات نقدية كاشفة. ولو اننا عرفنا بالضبط كيف حدثت هزيمة 1967 وعملنا على اصلاح الاخطاء في حينها، لربما صار في امكاننا معالجة كل نواحي النقص في المجالات الاخرى.

إن المكاشفة أو الشفافية ليست الأسلوب الصحيح لتنمية القوى الابداعية لشعوبنا فحسب، بل هي حق من حقوق الانسان في عصرنا، وليس من حق احد ان يتصرف في مقدرات مجتمع بأسره من دون ان يحيطه علما بالاسباب الداعية الى هذا التصرف أو ذاك وأن عليه ان يستمع لآراء الآخرين وحقهم المطلق في النقد والاختلاف.

على الرغم من كل الاحباطات التي يشعر بها الشباب وتُلجئ بعضهم الى انفجارات عشوائية أو السقوط في براثن آيديولوجية متخلفة وتدميرية، فإن المجتمعات العربية ـ ومن بينها المجتمع المصري بطبيعة الحال ـ قادرة على معالجة الاخطاء، وعلى تحمل نتائج عمليات اصلاح قد تكون باهظة. وربما كان في مقدمة اي اجراء هو اخراج الناس من حالة الاكتئاب ومشاعر الدونية والمهانة والعجز، وليس هناك طريق لهذا الخروج افضل من المصارحة والتحقيقات الكبرى، أو سمها القومية، ليعرف الناس حقيقة ما حدث لهم وأسبابه.