عزلة غير مسبوقة المثال للموقف

TT

لن أتوانى عن التكرار. إن هزيمة أميركا في الفييتنام قبل أن تتم في أرض المعركة، كانت قد لاحت معالمها في شوارع واشنطن، على يد الأمهات وذوي القتلى من المحاربين، كانوا يتظاهرون بانتظام ويقولون كفى. وكذلك المعركة ضد الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، وكل الحروب الاستعمارية التي قصر أجلها حينما هب الرأي العام في الميطروبول للتنديد بحكومته. في حرب الريف الأولى (1906 كان المتظاهرون يقيمون من أجسادهم سدا يحول دون تحرك القطارات الحاملة للجنود، إمعانا في معارضة حرب غير عادلة ضد المغرب).

ليس هذا حال معركة استقلال فلسطين. والسبب المباشر هو بالطبع عمى ووحشية الاستعمار الإسرائيلي، والانحياز المقيت من لدن الإدارة الأميركية، ولكن أيضا عدم قدرة الفلسطينيين على امتلاك قرار موحد، يجعل ضرباتهم مسددة بإحكام، ومركزة بكثافة على أهداف محددة يكون التركيز عليها إضعافا للعدو وإمعانا في عزله. العكس هو الحاصل، ولنتأمل في هذا الوضع الذي أوقع الفلسطينيين في عزلة تتزايد مع الأيام، بعد كل التقدم الملموس الذي حدث في مضمار تفهم الرأي العام العالمي لعدالة قضيتهم. ولنتذكر كيف تم انتزاع قرارات دولية إجماعية في مجلس الأمن، وقبله قرار دوربان، ثم بيان مدريد الرباعي، والمظاهرات المؤيدة التي عمت كل عواصم الدنيا، واضطرار الإدارة الأميركية نفسها إلى التسليم بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية، وكيف تناوب هذا مع أصداء التنديد بالعمليات التي تنفذ ضد المدنيين، حتى أن اجتماع مدريد الرباعي نص على كل بنود الشرعية الدولية، وصحب ذلك بالمطالبة «بوقف الإرهاب الذي يشمل الهجمات الانتحارية المروعة وغير الأخلاقية».

إنه رغم المشاعر الحادة التي أيقظها حادث 11/9، تمكن الفلسطينيون بقيادتهم الوطنية من أن يضعوا أنفسهم في منأى عن المضاعفات السيئة لذلك الحادث. ورغم الدعاية المضادة النشيطة والفعالة، أمكن فصل كفاح الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية، عن الإرهاب، ولكن وقع التراجع بالذات لدى تحويل الأعمال المسلحة من هدفها المفهوم، وهو ضرب جنود الاحتلال وسكان المستوطنات، إلى هدف غير مفهوم من لدن الرأي العام العالمي، وهو ضرب المدنيين في إسرائيل.

يوم الأحد الماضي خرجت لأول مرة في مدريد مظاهرة مؤيدة لإسرائيل، اختتمت بقراءة بيان لصالح إسرائيل تلاه مدير معهد سيرفانتيس. وقبل هذا كان الكاتب خوان غويتسصولو، الذي كان ضمن وفد البرلمان العالمي للكتاب الذي زار رام الله، قد كتب مستنكرا سياسة شارون المجنونة، وفي نفس الوقت حرص على التنديد بعملية ناتنيا في 28 مارس الماضي. ومثله كتاب كثيرون وفنانون وعلماء، عبروا بطلاقة عن التنديد بالسياسة الاستعمارية الإسرائيلية وقرنوا ذلك بالتنديد بالعمليات التي تستهدف المدنيين في إسرائيل. إن الدافع إلى ركوب هذه العمليات المتوالية هو بلا ريب التعبير عن اليأس. ومنذ حوالي سبعين سنة كتب الزعيم المغربي عبد الخالق الطريس معلقا على وضع مشابه، إن الداعي إلى تطرفنا هو قلة ما كسبناه بالاعتدال. وبمناسبة تجديد الإدارة الأميركية تبنيها من جديد لمواقف شارون بشكل جد استفزازي، لا يمكن إلا أن يتأجج الغضب ضد موقف غير مشروع وغير أخلاقي. لقد أقنعت إسرائيل الولايات المتحدة بصلاحية تطبيق المقاربة الأفغانية على الحالة الفلسطينية. بمعنى أن الأمر يتعلق كما في كابول بوضع يفتقر إلى أدنى مقومات لحياة مدنية، مع انعدام سلطة تلتزم باتفاقات معقولة. وسيادة الفوضى والفساد. وهذا يؤدي إلى انعدام مقومات أي تفاوض جدي. إذ ليس هناك شعب منظم./ولا مصداقية للمخاطب./والقيادة فضلا عن ذلك متجاوزة ليس في وسعها أن تتحكم في قرارات حماس والجهاد.

لا سبيل طبعا إلى مقارنة بين فلسطين وأفغانستان. فحتى قبل إقامة السلطة كان هناك كيان وطني فلسطيني قائم الذات، وسبق لإسرائيل نفسها أن تعاقدت معه، وكان الاتفاق المبرم مع هذا الكيان المنظم ساري المفعول قبل أن تأتي حكومة شارون لتقويضه، بإتمام ما بدأه باراك.

في أعقاب الوضع الناشئ بعد 11/9، روج شارون أن عرفات هو بن لادن، وأن السلطة هي طالبان، وأنه لا سبيل للتفاوض قبل استتباب الأمن. واستقر في فهم واشنطن، أن هذه المقاربة مقبولة، وأنه لابد من البحث عن كرزاي فلسطيني، وتركيب لويا جيركا. واقتنعت واشنطن بأن هذا الطريق يؤدي إلى الحصول على مخاطب وفق المقاس، وترتيب سيناريو وفق الطلب. والمطروح على الفلسطينيين في أقرب الصيغ اقترابا من مشروع الدولة هو ما كشف في كتاب «الحلم المكسور» لشارل أندرلن، الذي نشرت مجلة نوفيل إوبزرفاتور مقاطع منه منذ أسبوعين، من أن هذه الدولة ستكون مجزأة إلى ثلاثة أجزاء، مع وضع سوريالي للقدس يكون الإشراف فيه على حرم المسجد الأقصى للفلسطينيين والسيادة على ما تحته لإسرائيل. والآن يتردد بدلا من الدولة، كيان يوضع تحت الوصاية الدولية في فترة من الزمن تقام فيه سلطة للفلسطينيين تتفاوض فيما بعد على شكل الدولة. ويتبرع شلومو بن عمي في مقال له نشر الثلاثاء في إيل باييس الإسبانية، بأن يوضح أن هذه الوصاية الدولية على الفلسطينيين ستكون بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي، وتفكيك المستوطنات، وإجراء انتخابات نزيهة حقا، مع تعاون المجتمع الدولي على إقامة وضع اقتصادي قابل للعيش، وحل واقعي للاجئين لا يتضمن الحق في العودة، وهذا بعد تصفية الإرهاب. ويبني بن عمي هذا التصور على أساس التخلص من حالة فوضى وفساد إداريين، وصولا إلى نظام مضمون الشفافية، يتفاوض مع إسرائيل على أساس الاستقلال والديموقراطيا، يكون بديلا عن السلوك الديكتاتوري لعرفات، الذي لا يهمه غير الزعامة، والذي عجز عن تحقيق أماني شعبه، (بوش قال أكثر من ذلك: إن عرفات خان شعبه)، كما عجز عن اتخاذ قرارات قوية. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إنه بدلا من أن يكون الشعار هو عرفات أولا يجب أن يصبح الشعار هو عرفات أخيرا، لأنه في النهاية مجرد مظلة لتشكيلة من المنظمات المسلحة، وعصابات متنافرة تفرخ إرهابيين وإسلاميين.

وهذه المقولات تعانقها الإدارة الأميركية بشكل حرفي، ووردت على لسان المسؤولين الأميركيين في مختلف درجات المسؤولية، فضلا عن ترديدها على مدار الساعة في الإعلام الأميركي. وفي استطلاع للرأي نشرت نتائجه CNN في أوائل أبريل الماضي، كان 52 في المائة من الأميركيين يوافقون على نفي إسرائيل لعرفات، في حين يحبذ 12 في المائة منهم قتله. كما أيدت مختلف استطلاعات الرأي التي أجريت في الولايات المتحدة، تأييد العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. في حين نشرت جريدة وول ستريت جورنال، منذ أسبوعين، مقالا أبرزت فيه أن هناك فلسطينيين متذمرين من الفساد المستشري في السلطة، ويعتبرون أنه بعد الاحتلال الأردني والاحتلال الإسرائيلي، هناك الآن احتلال «تونسي»، يتمثل في مجيء بارونات منظمة التحرير. إن الالتقاء المتطابق للتصورين الإسرائيلي والأميركي، مستمد من الثقافة الأميركية القائمة على حق احتلال أرض بلا شعب، ومن التخدير الذي تمارسه المقولات الصهيونية المسيحية في طبعتها الأميركية، وبذلك تكون إسرائيل وأميركا نشازا في المجتمع الدولي. ولكن إذا كان الرهان على التعقل الأميركي في حكم المفقود، فإن في المجتمع الدولي ضميرا يجب ألا نفقده بالمرة.