البريطانيون مشوشون بين بيكام وباكنغهام

TT

نافس ضجيج مباريات كأس العالم احتفالات بريطانيا باليوبيل الذهبي لاعتلاء الملكة اليزابيث الثانية العرش. وبدت وطنية البريطانيين على المحك: متابعة بيكام، اشهر لاعبي الفريق الانجليزي الآن ورمزه الأبرز، ام متابعة جولات الملكة في انحاء البلاد وما يجري في قصر باكنغهام من حفلات موسيقية تضم ايضا المشاهير في كل المجالات.

التحضيرات لليوبيل بدأت قبل سنة، ولم تشوش عليها وفاة شقيقة الملكة الأميرة مارغريت، ولا والدتها الملكة الأم. لكن الحظ السيئ جعل هاتين المناسبتين تتقاطعان، فرفرفت الاعلام الوطنية من فوق نوافذ البيوت وواجهات المحلات. صحيح ان الانجليز في غالبيتهم لا يزالون يؤيدون وجود المؤسسة الملكية وان كانت لا تحكم، لكنهم ايضا شعب متعصب لكرة القدم ويملك جمهور المشجعين الأكثر شهرة في العالم على مستوى الشغب. رابطة للمشجعين يحسب لها ألف حساب عند سفر افرادها لحضور مباريات تجري خارج بريطانيا، الى حد ان الدول المضيفة تستنفر رجال أمنها تحسبا لأي ردة فعل قد تصدر عنهم. بعض المشجعين باتوا مشهورين كقادة في الشغب وتم تعميم اسمائهم وصورهم على المطارات الاوروبية لمنعهم من دخولها. بعد تلك المقدمة، للقارئ ان يتخيل اين مالت كفة الميزان تماما.

الصحافة البريطانية وبقية وسائل الاعلام غطت الحدثين، بل بدأت في فتح ملفات العائلة المالكة قبل اسابيع ونشرت صورا نادرة وقديمة لم يطلع الجمهور عليها من قبل. قد لا يعني الامر شيئا للمتابع المحايد، خصوصا القادم من العالم الثالث، وقد بلي بضجيج احتفالات رسمية لا تنتهي، ابسطها يمتزج بالروح والدم. الا ان بعض ما طرح من موضوعات في الاعلام البريطاني، وهو ذو صلة بمرور خمسين سنة على حكم الملكة، يلفت الانتباه الى ان الامر لم يتوقف عند حدود الاحتفاء والتصفيق، من ذلك ما فعلته صحيفة «الغارديان» التي شدت الانظار الى اشخاص لا تقل اهميتهم عن الملكة في عطائهم لبلدهم بريطانيا الحديثة خلال نصف قرن، علماء وأدباء وسياسيين... الخ. وقد توقفت عند موضوع آخر هو الاستفتاء الذي اجرته الصحيفة بين القراء ليحددوا من هم الاشخاص الذين يشاركون الملكة اليزابيث فخر صياغة وجه بريطانيا الحديثة خلال النصف قرن، سلبا او ايجابا، فالسلب ايضا يشكل الاوطان والافراد.

البريطاني الذي نال اعلى الاصوات في استفتاء «الغارديان» هو جون لينون، عضو فرقة البيتلز الذي اغتيل قبل عشرين سنة من قبل معجب مهوس، حسب الادعاء الذي لم يدحض رسميا. لينون ساهم في تشكيل الموسيقى والغناء الجديدين في مرحلة الستينات التي شهدت تحولا كبيرا في المفاهيم العامة والعلاقات الاجتماعية في اوروبا. وكان لينون ابرز اعضاء الفريق الغنائي، وله موقف متميز من القضايا السياسية والانسانية في العالم، مثل القضية الايرلندية. واشهر اغانيه هي Imagine (اي تخيل)، التي تحمل اعمق المعاني الانسانية. اما الشخصية الثانية في الاستفتاء فكانت مارغريت ثاتشر، ومن اطرف التعليقات التي رافقت تبرير التصويت وصف احد القراء لها بأنها اسامة بن لادن بريطانيا، لانها خربت كثيرا من المكتسبات في المجتمع من خلال مواجهتها مع النقابات العمالية القوية وتجمعات عمال مناجم الفحم. لقد بدأ تفكيك القطاع العام في زمنها واستكمله من بعدها رئيس الوزراء جون ميجر الذي ساهمت حكومته في بيع قطاع النقل الى القطاع الخاص، وما تبع ذلك من حوادث قطارات ومشاكل كثيرة لا يزال يعاني منها الشعب البريطاني. من الملاحظات الاخرى على الاستفتاء ان عالما في مجال الكومبيوتر حصل على اصوات مساوية لثاتشر، لكن ليس سلبا هذه المرة. انه العالم (الن تورينغ) الذي اسهم في تطوير تكنولوجيا الكومبيوتر، ولولاه ربما ما كنا سمعنا عن بيل غيتس، فقد قدم نقلة كبيرة في هذا المجال في خمسينات القرن الماضي. (ومع ذلك فإن غيتس رفض في الفترة الاخيرة دعوة للمساهمة بانشاء نصب تذكاري لهذا العالم رغم ان نجاح ميكروسوفت يعتمد على انجازات تورينغ).

لكن هل يمكن ان نتصور ان استفتاء في العالم الثالث يختار عالما او فنانا كوميديا كواحد من الاشخاص الذي ساهموا في تشكيل بلادهم الحديثة؟ واذا كان ظهور عالم كومبيوتر في قائمة الاستفتاء مفهوما، فكيف يمكن ان يؤثر الفنان الكوميدي في مسار مجتمع ما؟ لقد فعلها البريطانيون وصوتوا لصالح فنان كوميدي يدعى سبايك ميليغان. وما الذي فعله ميليغان ليستحق هذا التكريم؟ اسس في خمسينات القرن الماضي كوميديا جديدة في مسلسل تلفزيوني يجعل البريطانيين يضحكون على انفسهم ـ بدل ان يتهكموا على الشعوب الاخرى ـ وقد انعكس اسلوبه تمثيلا وكتابة على ما جاء بعده من كوميديا لاحقة في التلفزيون والسينما والمسرح في بريطانيا، وبات البريطانيون يقولون رأيهم بقضاياهم الرسمية وغير الرسمية من خلال الضحك، وليس على اي مسؤول ان يحتج، بدءا من الملكة وعائلتها الى اعضاء الحكومة، انها تنويعة جديدة على الديمقراطية البريطانية التي يفخر بها شعبها. امتلأ الاستفتاء بأسماء محلية في السياسة والفنون والاعلام والثقافة لا يهم القارئ هنا التوقف عندها بالتفصيل. وغابت للغرابة اسماء رياضية، ربما لان المهتمين بالرياضة كانوا مشغولين عن الاستفتاء بمتابعة مباريات كأس العالم.

في النهاية سأتوقف عند جارتي العجوز القبرصية الاصل ماريا التي تتحدث الانجليزية بركاكة رغم حصولها على الجنسية البريطانية منذ سنوات طويلة. ماريا كانت مبتهجة باحتفالات اليوبيل الذهبي واخبرتني متباهية انها في عمر الملكة (77 سنة)، وقد جاءت الى هذه البلاد قبل اعتلائها العرش بشهرين عندما كان والدها الملك جورج الخامس لا يزال يحكم بريطانيا وهو مريض. ماريا لا تزال تتذكر احتفالات التتويج التي عمت البلاد وتستعيدها بفرح طفولي كأنها في لحظة الروي هناك: الملكة شابة وماريا شابة، بل وفي عمرها. لكن العجوز، جارتي، هاجرت الى هنا في الاساس للعمل في فندق اصحابه يونانيون، وظلت تكد طوال السنوات الماضية في اكثر من مكان الى ان اشترت وزوجها بيتا واسعا في احد ضواحي العاصمة. انها من جيل الملكة وتمثل العمالة الاجنبية التي خدمت اقتصاد هذا البلد منذ عشرات السنين، ومع ذلك سقط اسم ماريا المسكينة من الاستفتاء، الامر الذي ما كان يجب ان يفوت على البريطانيين الحصيفين!

* كاتبة سورية مقيمة في بريطانيا [email protected]