سوسيولوجيا الأغنية العربية

TT

أشعر بأن فيروز تستحق أكثر من سطور عابرة في هذا التفسير الاجتماعي والسياسي لفن الغناء العربي الذي أحاول منذ الثلاثاء الماضي عرضه وتقديمه.

فيروز في السبعين (تعترف بـ 67 سنة منها فقط) وهي تتربع اليوم على عرش هذا الفن الشعبي في العالم العربي بلا منازع، ليس لأن الساحة قد خلت، فقد كانت ظاهرة عملاقة منذ أن كانت هذه الساحة مليئة بعمالقة الغناء والموسيقا.

لقد أحدثت فيروز (نهاد حداد) نقلة مفاجئة وفاصلة في فن الاغنية العربية منذ نحو خمسين سنة. فقد قدمت الاغنية (الساندويش) التي لا يستغرق التهامها سوى دقائق معدودات. لقد اختصرت الزمن العربي الضائع، متجاوبة مع عصر طابَعُهُ الحداثي والحضاري السرعةُ واختصارُ المسافة.

أم كلثوم مطربة. فيروز مغنية. الفرق كبير بين التطريب والغناء. الطرب انفلاش عاطفي فطري وغريزي. الغناء ثقافة رفيعة وغذاء روحي وتهذيب وجداني للعاطفة. الطرب كالحزن، فهو حالة انشراح واهتياج قد تستغرق وقتا. الغناء ومضة زمنية سريعة يسمو بها المغني بجمهور أكثر ثقافة ووعيا وانضباطا من جمهور الطرب العريض.

أم كلثوم مطربة ضخمة. فيروز أكملت مسيرة عبد الوهاب الحداثية في نقل هذا الفن الشعبي من طرب الى ثقافة رفيعة. لقد عايش عبد الوهاب اجيالا عربية مختلفة. فيروز مطربة جيل عربي جديد، جيل الخمسينات الشبابي والسياسي الذي بدأ يفرض نفسه بحكم الفورة التناسلية التي اجتاحت المجتمع العربي بعد الاستقلال.

لقد خرجت فيروز من «الغيتو» المسيحي اللبناني (أبوها سرياني وأمها مارونية) الى الفضاء العربي الفسيح، متجاوزة العقد الطائفية الضيقة لتغني للعرب جميعا ربما بأكثر من القدر الذي غنت لبنان. كانت فيروز التعبير الفني والثقافي لازدهار المؤسسة المارونية الحاكمة سياسيا واقتصاديا، في مقابل خواء فني عند المؤسستين السنية والشيعية.

لكن مارونيتها كانت منفتحة لا عنصرية ولا مليشياوية. كانت امتدادا للمرجعية المسيحية اللبنانية الأولى التي شاركت في تحديث الثقافة العربية منذ بواكير القرن التاسع عشر، وفي تحريك المشاعر القومية ضد استعمار تركي بليد المشاعر ومعاد للتراث العربي بقدر ما هو عميق الايمان بإسلام سني تقليدي.

تعريب الفن الفيروزي تم ضمن هذا المنظور المسيحي الانفتاحي، دون ان يفقد طابعه اللبناني وخصوصيته المارونية الجبلية. فعلت فيروز ذلك، دون تملق ومنافقة للعواطف العربية طمعا في مكسب مادي وتجاري، كما تفعل مغنيات الاغنية الشبابية اللبنانية في هذه الأيام.

ولعل تبني المؤسسة السياسية السورية لفيروز ساهم مساهمة كبيرة في اطلاقها عربيا وصنع نجوميتها الفنية. وهو الانجاز الفني الوحيد الذي يمكن ان تفاخر به سورية الرسمية على امتداد خمسين سنة.

هذا الذكاء الاعلامي والدعائي يعود الى اعلامي واحد ما زال على قيد الحياة، لكنه مجهول للجيل الجديد حتى في سورية التي يعيش بعيدا عنها منذ عشرات السنين. كان الصحافي السياسي أحمد عَسَّه مديرا للاذاعة ومستشارا سياسيا مقربا من أديب الشيشكلي، فوضع كل امكانات عصر الراديو في خدمة مغنية شابة عرف منذ الوهلة الأولى انها مختلفة تماما عن الأخريات.

نعم، كان أحمد عَسَّه يدرك بحكم ثقافته معنى نقل هذا الفن الشعبي من طرب تقليدي الى غناء نبيل. لكن فيروز لم تدرك انها واكبت، ان لم أقل انها ساهمت عن غير قصد، في ارساء دعائم العسكريتاريا السورية كمؤسسة الحكم التقليدية.

انه اديب الشيشكلي (حسني الزعيم حكم شهورا قليلة) الذي دشن حكم المؤسسة العسكرية ـ المخابراتية. وربما كان له تأثير كبير وغير مباشر على جمال عبد الناصر في ان يفعل ذلك ايضا. وفي عهد الشيشكلي غنت فيروز أولى ملاحمها الغنائية لتمجيد المؤسسة العسكرية الحاكمة (رجال الجيش يا هندُ.. علـى ايمانهم نحيا..).

لقد صفق السوريون لفيروز، بلا وعي منهم لخطر المؤسسة العسكرية على الديمقراطية العربية الوليدة آنذاك. لكنهم حملوا سيارة فيروز على الاعناق والاكتاف عندما غنت لهم الفولكلور الشامي اللاسياسي (يا مال الشام). وما زالت فيروز تكن هذا الود الملحمي للسوريين، فغنتهم ملاحم متعددة، لعل أشهرها (سائليني يا شآم) التي نظمها سعيد عقل قبل ان يتقهقر به خريف العمر الى صومعته المارونية الضيقة على حساب شاعريته الفذة التي صقلها بالاطلاع العميق على التراث العربي الشعري والادبي.

كان زواج فيروز والرحابنة حدثا فنيا رائعا، لكنه كان كارثة عائلية. وكانت خشية السوريين كبيرة من ان يتأثر اداؤها وفنها بخلافها الدرامي مع زوجها عاصي. وفي ذروة انهماك الرئيس حافظ الاسد في مواجهة فاصلة في لبنان وفي الداخل السوري، فقد وجد من الوقت ما يكفي للتدخل مرارا للمصالحة وللحيلولة دون الانفصال المحتم.

انها «شيطنة» الرحابنة التي اوقعت فيروز في مطب تمجيد العسكريتارية السياسية. فلم تكن وربما هم ايضا، على وعي لسلبيات تدخل عساكر العرب في السياسة. ولعل العذر الوحيد للرحابنة في مسايرتهم لدكتاتورية الشيشكلي كان الحاجة الى راع وموئل سياسي لم يعثروا عليهما في لبنانهم في بداية مشوارهم الفني.

لكن كل ما ذكرت عن فيروز كان من صنع هؤلاء العباقرة الرحابنة. فيروز من صناعة المؤسسة الفنية الرحبانية. الموهبة لا تكفي. كان لا بد من صقلها. وكم كان الفن الغنائي العربي بليدا وتقليديا لو أمضى زوجها عاصي وشقيقه منصور بقية حياتهما شرطيين في خدمة الدولة اللبنانية.

كان آل فليفل (عباقرة الموسيقا العسكرية) أول من اكتشف فيروز. فالحقوها بمعهد الكونسرفاتوار. وكان الموسيقار حليم الرومي (والد ماجدة) هو الذي منحها اسمها الفني. لكن الشيطان عاصي الآتي من الحقل الزراعي ومن خدمة زبائن ابيه في مقهاه هو الذي عثر في فيروز على ضالته الفنية والعاطفية. كان اللقاء من صنع المصادفة. كان هو عازفا على الكمان وهي معه مجرد «كومبارس» في فرقة الاذاعة اللبنانية.

عاصي الرحباني عبقري الموسيقا الحداثية العربية الى جانب عبد الوهاب. لقد قدم عبر صوت فيروز موسيقا جديدة تماما، موسيقا سريعة في جملتها الفنية. انها كوكتيل مدهش للفولكلور اللبناني والتراث العربي مع سرقة «مهضومة» من موسيقا الاغنية الاوروبية. وكان الفضل المبكر في اكتشاف وصقل موهبة عاصي لكاهن مسيحي اسمه الأب بولس الاشقر.

عاصي موهبة ثقافية وفنية متكاملة: عازف. ملحن. ممثل. مسرحي. سينمائي. ملحمي. لكنه مع شقيقه منصور ايضا مثقفان موهوبان يعرفان انتقاء الكلمة وتجنيبها سقم وابتذال كلمات الاغنية العربية. واستخدما الفصحى بقدر ما استخدما العامية اللبنانية، لكن في تعبير رومانسي رفيع المستوى الثقافي لم يجتمع لغيرهما في لبنان الى الآن. وصوت فيروز وحده هو الذي أضفى على الكلمة بهاء هذه الخصوصية الرحبانية المتفردة.

لقد اتهم الرحابنة باحتكار فيروز. ربما في الاتهام كثير من الظلم. لقد سمح عاصي لكثير من الملحنين في التلحين لفيروز. وأذكر بينهم فيلمون وهبي «سبع» الفولكلور الغنائي اللبناني (يا مرسال المراسيل، يا دارة دوري فينا، فايق يا هوى...)، بل سمح عاصي لابنه زياد في التلحين المبكر لها (سألوني الناس عنك، نَطّرونا...).

زياد فنان مثير للجدل. لقد تقيد بمدرسة أبيه في حياته. لكنه خرج عنها بعد وفاته (كيفك أنت...) بعضهم يتهمه بانزال أمه من عرشها الغنائي وبابتذال الكلمة الغنائية. واعتقد ان كل ما فعله هو نقلها من رومانسية القرية الجبلية الغارقة في القمر والغمام والخضرة الى المدينة الغارقة في الصخب والواقعية في لغتها المحكية، لكن ايضا دون ابتذال واسفاف.

لنترك هذا الشيطان العبقري في حاله. لنترك له الفرصة للاستفادة مما تبقى من صوت فيروز وعمرها الفني، ليستمر في تقديمها في أغنية شبابية حداثية على طريقته وجديدة لها وعلينا. ولو لم تكن فيروز نفسها واثقة من ابنها وفنه لما رضيت ان تسايره. وكل عتبي عليه كمستمع مزمن للرحابنة القدامى والجدد هو استخدامه الموسيقا الاوركسترالية لتطغى على هذا الصوت الفضي الذي ما زال يحمل شعاع القمر الينا في ليل عربي بهيم. هل يحاول زياد تغطية بوادر ضعف في الصوت؟ لست أدري.

ليس هذا كل شيء عن فيروز والرحابنة وسوسيولوجيا الفن الغنائي العربي. ولعل في متابعة الحديث عن المنظور السياسي والاجتماعي للأغنية العربية، والمصرية خصوصا، ما يخفف من غمّ الجمود السياسي في هذا الزمن الشاروني الرديء.