وجه آخر لشارون: «السياسي رجل السلام»، و«الخبير» في القانون الدولي

TT

مَهّد الجنرال شارون ـ قبل القيام بزيارته السادسة الأخيرة إلى البيت الأبيض ـ بطلبه إلى أحد خبرائه أن يكتب له مقالاً يُلمِّع صورته لدى المجتمع الأميريكي، وينقل به خطابا سياسيا، وأطروحة قانونية يقدمهما إلى البيت الأبيض قبل وصوله كي تتجه محادثاته مع الرئيس بوش في وجهتهما، مؤملا أن يتبنى الرئيس الأميريكي الخطاب والأطروحة كما اعتاد أن يفعل كلما وفد عليه الوزير الأول الإسرائيلي الذي لا يُعلم أنه عاد قط من زياراته المتلاحقة ولو مرة واحدة خاوي الوفاض.

وقد نُشِر المقال الذي كُتِب لشارون في جريدة «نيورك تايمس» يومين قبل موعد الزيارة، وترجمته إلى الفرنسية بعد ثلاثة أيام جريدة «لوموند» الباريسية، ونشرته على صفحتها الأولى تحت عنوان: «الشرق الأوسط كيف المخرج؟». أي أن الجريدة الفرنسية ذائعة الصيت خصصت له موقع افتتاحياتها التي تنشرها على الصفحة الأولى وتُخصّصها عادة للمرموقين من كتابها.

كان توقيع المقال من لدن الجنرال باسمه مثيرا. وكان عنوانه أشد إثارة، إذ لم نعتد من «لوموند» أن تنشر للقيادات العسكرية، وخاصة أن تضع مقال العسكري «شارون» في المكان الذي تخصصه لكبار الكتاب من محللين سياسيين، وخبراء في مختلف حقول المعرفة، وأساتذة مرموقين في عالم السياسة، وقانونيين لا يُشَقُّ لهم غبار كلٌّ في مجال تخصصه. وبجميع المقاييس فإن «شارون» قد وُضع في غير مكانه الذي تحتله عادة نخبة الكتاب المشهورين.

خطر لي كل ذلك وأنا تحت مفاجأة العنوان الذي يحمل السؤال: ما هو المخرج؟ وقلت في نفسي: إن الخبير الذي كتب لشارون المقال وأمضى عليه شارون مغمض العينين قد يكون وضع لسيده برنامجا سياسيا، وابتدع له أفكارا جديدة لإخراج السلام العربي الإسرائيلي من مأزقه. وهذا في مبدئه مثير كل الإثارة، لكن كم كانت خيبتي عندما انتهيت من قراءة المقال الذي لم يتضمن لا خطة للسلام، ولا أطروحة قانونية مقبولة ومُقْنِعة، ولا جديدا سياسيا في مواقف شارون وتوجهاته، وإنما يمكن تلخيصه في أن من أمضى على المقال المطبوخ يريد أن يضلل العالم بأن مَخْرج السلام من مأزقه يكمن في أن يتركه المجتمع الدولي ـ وعلى رأسه الرئيس بوش ـ يواصل سياسته الإرهابية القمعية إلى نهايتها، أي إلى أن يتحقق له السحق الكامل «للإرهاب» الفلسطيني. وآنذاك يمكن أن يقدم للفلسطينيين ما يملك أن يتنازل لهم عنه، بشرط أن لا يتوصل مع ذلك إلى الحل النهائي إلا بعد سنوات طويلة من الهدوء الكامل والأمن الشامل، وينضج المحاور الفلسطيني خلالها للقبول بما يتاح ويستطاع من الجانب الإسرائىلي.

ولو أن هذا المقال الذي أريد منه أن يشكل خطة سياسية لتحقيق السلام قُدِّم إليَّ من طالب في الجامعة يدرس في شعبة القانون أو السياسة ضمن أوراق الامتحان لتنقيطه لوضعتُ عليه صفرا عريضا موجِبا للسقوط. ولعلَّقتُ عليه: «هُراء خارج الموضوع، ليس فيه تماسك جدلي». و«نتائجه الخاطئة مبنية على مقدماتٍ مهزوزةٍ أو كاذبة، وغيرِ مسلَّم بها».

يهدف المقال إلى تزوير للتاريخ لينتهي إلى تزوير الجغرافيا، فالأراضي الفلسطينية المحتلة عند كاتب المقال أراضٍ متنازعٌ عليها بين العرب واليهود، دون أن يوضح أن مرجعية هذا النزاع تعود عند اليهود إلى عهد مملكة شاؤول وداود وسليمان التي لم تستمر حتى قرنا كاملا، وأن مرجعية عرب فلسطين تعود إلى استمرار وجود الشعب الفلسطيني فوق أرضه منذ آلاف السنين بدون انقطاع.

ويضيف المقال: «إن قرار مجلس الأمن 242 يؤكد وجود هذا النزاع ولا يفصل لصالح أي طرف، وإنما يُنصِف إسرائيل عندما لا يُلزِمها بالعودة إلى حدود ما قبل حرب 1967، وإنما إلى حدود آمنة معترف بها» هي التي ستكون قابلة للتفاوض القائم على مبدأ التراضي. لذا فإسرائيل على استعداد لإعطاء بعض التنازلات بالشكل والمقدار المقبولين منها ولن تتخلى عن جميع الأراضي كما لا تقبل تجزئة القدس.

هذا التأويل المجازِف للقرار 242 لا يحتمله النص ولا تتسع له صيغته، أي أن ادِّعاء اعتراف الأمم المتحدة بأن الأراضي المحتلة متنازع عليها لا يشير إليها القرار الأممي لا نصا ولا ضمنيا. لكنه «ابتداع» من كاتب المقال الذي أراد أن يجعل من شارون خبيرا قانونيا يُحرِّف الكلام المسطَّر في قرار مجلس الأمن عن مواضعه ويُفتي بما يجعل من القرار سندا شرعيا لأطروحة إسرائيل الاستعمارية الهادفة إلى إدامة احتلال فلسطين بجميع الوسائل، ومنها الاحتيال على تأويل مقررات الشرعية الدولية تأويلا مغرضا لا يستند إلى قانون ولا تقوم به حجة.

إن شارون «ابتدع» نهجا جديدا باعترافه بشرعية القرار 242 بعد أن ظلت إسرائىل منذ تاريخ إقراره سنة 1967 من لدن مجلس الأمن تَتنكَّر له أو تتجاهله وتستبعده دائما عن العمل به كمرجعية قانونية لحل مشكل الاحتلال الإسرائيلي الأراضي العربية. وها هو شارون يرد للقرار الأممي اعتباره لأنه يفهمه اليوم فهما خاصا يحوِّله به عما تعارف عليه المجتمع الدولي من كونه يُلزِم إسرائيل برفع احتلالها للأراضي العربية التي استولت عليها بالقوة في يونيه/ حزيران سنة 1967.

إن نص القرار صريح ولا يكتنفه أي التباس. وهو يدخل في نطاق مبدأ عام أقرته الأمم المتحدة هو أن ما أُخِذ بالقوة العسكرية يُسترَدّ بقوة الشرعية بكامله بدون انتقاص. ولذلك فقراءة شارون له مرفوضة من المنطق القانوني البحت، ومن وجهة نظر الأمم المتحدة ذاتها التي دأبت منذ صدور ميثاقها التأسيسي على رفض اكتساب المحتل بالقوة شرعيةَ احتلاله لا جزءا ولا كلا.

ولْنذكرْ هنا أن إسرائيل عملت على الطعن في صيغة القرار كما حُرِّر في اللغة الفرنسية ونص على انسحابها من الأراضي العربية، وقالت إنها لا تتعامل مع هذا النص ولا تعتبر إلا نصه المحرر بالإنجليزية وهو ينص على انسحابها من أراض عربية. الصيغة الأولى معرَّفةٌ بأَلْ وقد تفيد جميع الأراضي، والصيغة الثانية جاءت الأراضي فيها نكرة (أراضٍ) وهذا يتسع فهمه عند شارون إلى قصر الانسحاب على بعض الأراضي. وهذه مناقشة بيزنطية. لكن شارون زادها تمييعا عندما أضاف إليها وهو يتقمَّص حُلّة الخبير القانوني: أن النص يعتبر الأرض المحتلة موضوع نزاع بين العرب وإسرائيل وبذلك زاد الطين بَلَّة.

لا يُستغرَب من العسكري الأمي في السياسة أن يبدو من خلال المقال المنشور باسمه أميا في فهم القانون الدولي وتأويله. ففاقد الشيء لا يعطيه.

لكن «شارون» لم ينجح فيما يتوخاه من نشر المقال الذي جاء عاجزا عن تلميع صورته، وإنما زادها قتامة وظلامية بل انه أسقط القناع عن وجهه أكثر من كل وقت مضى.

لقد سلط المقال الأضواء على صورة شارون الحقيقية، وبرز فيه أنه مصمم على المضي في حربه الاستعمارية على فلسطين شعبا وأرضا ومقاومة وسلطة، وأنه لا يتوفر على رؤية سياسية بديلة، وكذَّب بنفسه مقولة الإدارة الأميريكية التي شهدت له زورا بأنه رجل السلام، وأضاف إلى ذلك إقامة الدليل على أنه أبعد ما يكون عن امتلاك الخبرة القانونية التي تُيَسِّر لصاحبها القراءة السليمة للمقررات الدولية.

ولا أدل على خسرانه رهان تلميع صورته مما أثاره مقاله من ردود نقدية علمية تولاها قانونيون دوليون، ومحللون سياسيون، من بينهم مواطنون أوربيون وأميريكيون. وكلهم أجمعوا على كشف نقائص المقال وعارضوا بقوة توجهاته، وفضحوا انعدام كفاءة صاحبه، ووضعوا النقط على الحروف فأبرزوا ما في منطق كاتبه من خلل وعَزَوْا ذلك إلى أن شارون هو الذي قتَّم صورته أكثر حيث هَرَف بما لا يعرِف، وقذف بنفسه في متاهات سياسية قانونية لم يجد له منها مخرجا، وهو الذي عنون مقاله بعبارة: أين هو المخرج؟ لكنه ضل به السبيل ـ في الوقت الذي جاء مقاله لا يجيب عن السؤال.

تعود بي الذاكرة إلى قصة تُروَى عن وينستون تشيرشيل وقد كان يرأس اجتماعا ضَمَّ مسؤولين مدنيين وعسكريين، فأبدى الأميرال «إيفانس لومب» رأيا أخذ يدافع عنه إلى أن قال: «ومن وجهة نظري السياسية...» فبادر تشيرشيل لمقاطعته قائلا: «إن واجبك يفرض عليك أن تظل معنيا بالشؤون العسكرية فقط، أما الشؤون السياسية فهي لنا». وزاد الوزير الأول البريطاني قائلا: «إن عالمنا سيكون في وضع أفضل إذا ما اقتصر الأميرالات والجنرالات على ممارسة اختصاصاتهم العسكرية».

وقبل ذلك سبق مصطفى كمال ـ وهو قائد عسكري ـ تشيرشيل إلى نفس الاتجاه عندما قال: «إن الضابط الذي يعمل في الميدان السياسي والميدان العسكري يصبح جنديا غير صالح وسياسيا غير صالح».