الجاليات الإسلامية في الغرب: رسل حوار أم طلائع صدام الحضارات؟

TT

في الوقت الذي كانت فيه الدول الاوروبية مجتمعة في اشبيلية للتداول في قضية الهجرة غير المشروعة اليها والاتفاق على سياسة واحدة لمعالجتها، نشرت «الشرق الأوسط» خبرا عن مراسلها في بروكسيل خلاصته ان احد ائمة المساجد في مدينة هولندية ارغم من قبل السلطات على توقيع تعهد خطي بالامتناع عن مهاجمة الغرب وتحريض المسلمين المصلين في خطبه على الحضارة الغربية وقيمها وبأن يحترم القوانين الهولندية.

قد يكون الخبر عاديا او هامشيا في نظر البعض، ولكنه، في الحقيقة، يبرز اصعب وأخطر ما في قضية هجرة ابناء الدول العربية والاسلامية الى اوروبا واقامتهم فيها، اي تعايش الاقوام والاديان والثقافات المختلفة في عالم محكوم بسقوط الحدود بين الدول وبنشوء تواصل دائم وعلى كل المستويات بين البشر.

لقد جاء المهاجرون ـ الذين اصبحوا في معظمهم مقيمين و«مواطنين»، الى هذه البلاد الغربية طلبا للعمل والعيش الكريم الذي لم توفره لهم دولهم. ووفرت لهم الحكومات الاوروبية: الاقامة والعمل والضمانات الاجتماعية وحرية العبادة وبناء المساجد. ونال الملايين منهم جنسية البلد الذي هاجروا اليه وحقوقا سياسية واسعة. فهل يكون من المناسب او الصحيح الاستفادة من كل هذه التقديمات ومكافأة البلد الذي قدمها بتحقير قيمه وادانة مجتمعه؟

ترى، كيف يكون موقف السلطات في بلد عربي او مسلم من مقيم اجنبي على ارضها يقوم بتحقير قيم الحضارة العربية او يحرض على معاداة الشعوب العربية والاسلامية؟ ان العلاقات بين المسلمين المقيمين في الغرب والشعوب الغربية، تمر اليوم في ازمة حقيقية، لا يجوز الاستهانة بها. فهناك هذا النشاط السياسي الديني «الاصولي» الذي يعمل على تحريض المسلمين المقيمين في اوروبا والغرب على الدول والمجتمع والحضارة الغربية وينشط في تجنيدهم لخدمة اهدافه السياسية وتحويلهم الى «مجاهدين» داخل المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها. (على غرار الامام الهولندي المذكور اعلاه).

وهناك انحراف بعض الاجيال العربية الجديدة من المقيمين في الغرب، نحو العنف بسبب تهميشهم والبطالة المتفشية في صفوفهم. مما ولد ردة فعل في الاوساط الشعبية، استفاد منها اليمين الاوروبي المتطرف في الانتخابات الاخيرة، فبات ينادي بطرد كل «الاجانب» (أي العرب والمسلمين في الحقيقة). وهناك تدفق أمواج المهاجرين غير الشرعيين من البلدان العربية والاسلامية الافريقية والشرقاوسطية التي تهدد باغراق الاتحاد الاوروبي. وهناك هذه الحرب على الارهاب التي تشارك الدول الاوروبية الولايات المتحدة فيها وتلزمها بالتشدد في مراقبة الجاليات الاسلامية المقيمة في اوروبا، الامر الذي يجعل من كل عربي او مسلم في نظر السلطات والشعوب الغربية عدوا، او انسانا خطرا او مشتبها فيه. ان العرب والمسلمين المقيمين في الغرب لا ينتمون في اكثريتهم الساحقة الى الحركات او الجماعات الاصولية المتطرفة ولكن «اندماجهم» في الشعوب الغربية، كما يراه الغربيون، ليس سهلا. هناك طريق ثالث بين الاندماج الكلي الذي قد يتعارض في بعض نواحيه او اسسه مع معتقداتهم وقيمهم، وبين تحولهم الى اقليات طائفية منعزلة عن المجتمعات الغربية او على خصام او عداء معها. وهذا الطريق يمكن تسميته بالتعايش السلمي مع المجتمعات الغربية واحترام قوانين الدولة وتفادي التميز الشكلي والتظاهرات المنفرة والمعادية.

لقد انقسمت آراء الحكومات الاوروبية المجتمعة في قمة اشبيلية الاخيرة بين مطالب بالتشدد في قبول مهاجرين جدد، واتخاذ تدابير لمعاقبة الدول التي تسمح بهذه الهجرة او تغض الطرف عنها. وبين قائل بمساعدة الدول الفقيرة التي يغادرها المهاجرون اقتصاديا وماليا كي يتوقف سيل الهجرة منها، وتقديم معونات للمهاجرين الذين يرغبون في العودة الى بلادهم الاصلية. وكانت فرنسا بين المنادين باعتماد الحكمة والنزعة الانسانية في معالجة هذه القضية. ولكن مهما اسفرت عنه هذه القمة من نتائج او مقررات، وبصرف النظر عن 11 سبتمبر والحرب على الارهاب، والتركيز على «الارهاب الاسلامي الراديكالي» فإن السؤالين الكبيرين المطروحين اليوم، وبشكل جاد وملح هما: 1 ـ ما هي شروط او قواعد تعايش المسلمين المقيمين في الغرب الاوروبي والاميركي مع شعوبه وقوانينه وحضاراته: هل هذا التعايش ممكن وسهل وضروري؟ أم انه يحمل بذور صدام محتم؟ 2 ـ ماذا بعد هذه الصحوة الاسلامية التي يشهدها العالم في بداية القرن الواحد والعشرين؟ هل لهذه الصحوة هدف معين بالنسبة للغرب، وبالتالي هل «صدام الحضارات» محتم؟ ام ان هذه الصحوة سوف تؤدي الى قيام حوار جديد بين الاديان والحضارات، ومن ثم الى التقاء ومشاركة في بناء عالم جديد وانسانية جديدة متكافئة ومتضامنة؟ ثمة سؤال ثالث لا بد من طرحه والتفكير الجدي في تداعياته الا وهو عن الحدود التي تريد الولايات المتحدة الاميركية الوصول اليها في حربها على الارهاب وتأثير ذلك على الوجود العربي والاسلامي في الغرب؟

من الراهن ان الانسان العربي والمسلم، بوجه عام، ناقم على الغرب لثلاثة اسباب: 1 ـ رواسب وذكريات الاستعمار الغربي لمعظم الشعوب والبلدان الاسلامية. 2 ـ مساعدة وانحياز الولايات المتحدة الاميركية لاسرائيل. 3 ـ تحميل التفوق الاقتصادي الغربي مسؤولية التخلف الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات العربية والاسلامية، كما انه من الراهن نتيجة للصحوة الاسلامية ان يتحفظ او يرفض الفكر الفلسفي او السياسي الاسلامي المعاصر نماذج الحياة الغربية وقيمها، رغم تأثر المجتمعات العربية والاسلامية، والعالم كله بها، في ردة فعل طبيعية للدفاع عن الاصالة والشخصية. ولذلك فإن دور الدول العربية والاسلامية في مساعدة الغرب على حل مشكلة الجاليات العربية والاسلامية فيه ليس سهلا.

صحيح ان الغرب بوجه عام، قد تجاوز في تطوره الصناعي والتكنولوجي والحضاري «المرحلة التاريخية» التي يمر بها العرب والمسلمون، وبات متمسكا ببعض القيم التي انتظمت مجتمعاته على اساسها: كالحرية الواسعة واحترام حقوق الانسان والعلمانية والديموقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة. وبالتالي، ان يرى هذا الغرب في القيم التي يرفعها الاسلام في وجهه نقضا لقيمه، وفي مقاومة المسلمين والعرب لها وله خطرا عليه. ان للعرب والمسلمين المقيمين في الغربين الاوروبي والاميركي، الذين سيبلغ عددهم بعد ربع قرن خمسين مليونا، دورا هاما جدا في تقرير مصير العلاقات بين الغرب والعالمين العربي والاسلامي. فإما ان يثبتوا ان التعايش بين الاديان والحضارات والثقافات ممكن ومفيد لكل الاطراف، وإما ان يتحولوا الى عامل تشنج وتصادم بين الغرب والعالمين العربي والاسلامي. غير ان خيارهم يبقى مرهونا بالسياسة او الستراتيجية التي سوف تتبناها الدول الغربية في موضوع هجرتهم واقامتهم في اراضيها واندماجهم او استحالته في مجتمعاتها، كذلك باستراتيجية الدول العربية والاسلامية بالنسبة للغرب.

ان انسانا عربيا مسلما، كلاعب الكرة الشهير «زيدان»، استطاع تقريب العرب والمسلمين الى قلوب الفرنسيين، في ما حققه لفرنسا من انتصارات رياضية، اكثر من كل ما تبذله الدول العربية والاسلامية من أموال وجهود في هذا السبيل. وان عملية تفجير في مترو باريس تقوم بها جماعة سياسية دينية اسلامية متطرفة تولد في قلوب الفرنسيين روحا عدائية للعرب وللمسلمين، اكثر بكثير من كل ما تستطيع اسرائيل توليده بوسائلها الاعلامية. ولا يزال الخيار مفتوحا امام الطرفين العربي ـ الاسلامي والغربي بين التعايش والتلاقي والتعاون في عالم الغد او الاصطدام الذي تلتقي اسرائىل مع المتطرفين المسلمين والغربيين، في التمهيد له بالرغم من العداء الصارخ بينهما.