الحريري... وأيامه الرئاسية الزاهية

TT

يعيش رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري ازهى ايامه الرئاسية. وبقدر ما ان هذا الزهو يشجع الرجل على ان يمضي ما تبقى من سنوات ولاية الرئيس اميل لحود وهو مطمئن البال الى ان ميدان الصراع السياسي اللبناني خلا من المبارزين، فإن هذا الزهو سيجعل خصوم الاستقرار في لبنان، وهم اسرائيل في الدرجة الاولى وبعض العناصر المتصهينة في بعض الحكومات الاوروبية وفي الادارة الاميركية، يفتعلون من التجنيات والافتراءات في حق الرجل بغرض هز مصداقيته لدى بعض الدول الفاعلة في العالم وهز الثقة الصامدة من جانب اللبنانيين في انه الأمل في انقاذ ما يمكن انقاذه للوضع المعيشي الشعبي والوضع المالي للدولة اللبنانية، وضمن المعادلة البدهية التي تقوم على انه اذا كان الوضعان المشار اليهما لن يشهدا التحسن المأمول في ظل ترؤس الحريري للحكومة في لبنان فإن انهياراً لواقع الحال المستقر نسبياً وبالمفهوم الطبي لعبارة «الوضع مستقر» سيحدث في اللحظة التي لا يعود الحريري هو رئيس الحكومة، جارفاً في طريقه التحصينات لدرء تداعيات القرار الاكثر صعوبة والمتعلق بخفض سعر العملة الامر الذي سيقضي على ما تبقى من احلام اللبنانيين في النهوض. وتلك حالة جديدة على الحكم في لبنان حيث انه لم يسبق ان ارتبط الوضع المالي والاقتصادي بشخص رئيس الحكومة. كما ان هذه الحالة الجديدة شكلت نقطة قوة مضافة لمصلحة الحريري وباتت اذا جاز الوصف بمثابة الدرع الذي تكسرت عليه انواع شتى من النصال تنطلق من كل الاتجاهات ثم ترتد لأن حقيقة المعادلة التي اوضحنا طبيعتها كانت من الواقعية بحيث ان نصلاً واحداً من تلك النصال كان يكفي لتغيير الحريري، لكن النصال تكاثرت وبقي الرجل فريداً من نوعه بين رؤساء الحكومات العرب سواء من حيث الدور لاولئك، وهو تنفيذي وذو طابع اقتصادي وخدماتي بينما هو جامع الدورين اي السياسة اضافة الى التنفيذ والاقتصاد.

والقول بأن الحريري يعيش ازهى ايامه الرئاسية يستند الى بعض الوقائع. فهو حقق الخطوة الاولى على طريق مواجهة غول التلوث بإنهاء وباء المازوت الذي جعل السحب الملوثة في السماء اللبنانية تلغي السبب الرئيسي الذي من اجله يأتي العرب والخليجيون منهم بشكل خاص وهو أن الهواء في لبنان علاج والإقامة فيه بالتالي، تملُّكاً او استئجاراً، متعة، والاستثمار مجدياً. وهذا ما جعل من هذا البلد وطناً ثانياً للأشقاء الخليجيين في الفترة التي سبقت الاحتراب في لبنان طوال ست عشرة سنة بدءاً من ابريل (نيسان) 1975. وباستكمال مواجهة غول التلوث بوقف ما تبقى من سيارات الـ «ميني باص» منتصف الشهر المقبل تلي ذلك مواجهة غول الكسارات وما اكثر تعقيداتها ومخاطرها، وتنظيف مناطق الشاطىء من العاصمة بيروت واستعادة هذه المناطق مجدها الذي كانت عليه في الستينات والسبعينات وبحيث انها بجمال ونظافة المناطق المشابهة في كل من فرنسا وايطاليا... باستكمال هذه المواجهة يستطيع لبنان ومن خلال مشاريع استثمارية على طول الشاطىء اللبناني ان يسدد القسم الاكبر من الثلاثين مليار دولار التي تشكل مديونيته، إلاَّ اذا كانت العلاقات التي بناها الحريري مع الولايات المتحدة والدول الاوروبية والضمانة من جانب الدول الخليجية لـ «لبنان الحريري» ستحقق ما يتطلع اليه الرجل، وهو أن يتم شطب ما يمكن شطبه من هذه الديون، وعلى نحو ما حصل مع مصر التي لولا الشطب المشار اليه للقسم الاكبر من ديونها لكانت احوالها صعبة جداً، أو فلنقل انها كانت ستبدو على غير ما هي عليه هذه الايام. ومثل هذا الشطب المأمول مرتبط بالتسوية والعملية السلمية التي لا يألو الحريري جهداً في سبيل اتمامها. ومن هنا الارتياح الاميركي والدولي الى سعيه ونواياه.

وهو على الصعيد الدولي بات، وبشكل عملي، الصديق الذي لا تحفظات عليه لكل الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن مع خصوصية في العلاقة مع الولايات المتحدة وفرنسا، من دون ان يعني ذلك ان العلاقات التي اسس لها مع بريطانيا وروسيا والصين لا تسير في اتجاه تحقيق نوع من انواع الخصوصية. وما هذه الزيارات وما يرافقها من استقبالات متميزة له من حيث قواعد البروتوكول ونوعية الاهتمام من قِبَل حكام وحكومات هذه الدول سوى الدليل على ان ذلك هو ما يتم بناؤه.

وهذه الخصوصية هي التي حملت اسرائيل على بدء حرب نفسية على الحريري تمثلت بتوجيه الاتهام اليه عبر كلام في صحيفة اسرائيلية يندرج في مسلسل الكلام الذي درجت على نشره بعد العملية الترويعية المعلوم ـ المجهول فاعلها الحقيقي حتى اشعار آخر، في كل من نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، الصحافة الاسرائيلية وبعض الصحف الاميركية والروسية والاوروبية المتأثرة بالمال اليهودي او التي للصهيونية تأثير عليها وعلى بعض كُتَّابها. ولقد رأت اسرائيل ان القبول الدولي بالحريري، وبالذات من جانب الادارة الاميركية والكرملين وبريطانيا وفرنسا، من شأنه ان يسبب إقلاقاً لمخططها الرامي الى تقطيع خطوط الاتصال العربي ـ الدولي، خصوصاً ان مضمون هذا المخطط هو تصوير العرب بأنهم معادون للغرب. وإلى ذلك ان العلاقة المتميزة التي بين الرئيس الفرنسي المتجددة رئاسته جاك شيراك وبين الحريري من شأنها تعزيز القبول الدولي بالرجل وفي ضوء هذه النظرة قررت اعتماد الحرب النفسية من خلال تشويه الصورة التي للحريري في اذهان الادارات والحكومات التي اشرنا اليها والايحاء لهؤلاء وبالذات للادارة الاميركية بأن هذا الرجل الذي يحظى بكل هذا الاهتمام من جانبكم هو في الواقع يساعد «الارهاب» الذي تتحدثون عنه والذي طرق ابواب بلدكم وتنشطون في سبيل محاربته في اي دولة في العالم. وليس هنالك وبسبب الحالة النفسية التي يعيشها الرأي العام الاميركي ما يُقلقه اكثر من موضوع الارهاب. وعلى هذا الاساس جاء الافتراء في الصحيفة الاسرائيلية بأن الحريري يمول «تنظيم القاعدة». وفي تقدير المفترين ان هذه التهمة تقطع الطريق على القبول الدولي بالحريري فلا تعود ابواب البيت الابيض مفتوحة امامه ولا يعود قصر الرئاسة الفرنسية «الاليزيه» يرى فيه انه الزائر الاكثر تميزاً لسيد هذا القصر ولا يعود 10 داوننغ ستريت يتعامل مع التحليل الذي يقدمه الحريري لمستقبل العلاقة العربية ـ البريطانية بالجدية والاهتمام اللذين نلاحظهما. وفي الوقت نفسه ان هذا الافتراء يكون بمثابة ايذاء للدور السعودي لما يمثله الحريري بالنسبة الى المملكة وتشويه للمرونة المستجدة من جانب الحكم السوري ازاء الافكار الجديدة تجاه العملية السلمية.

ومن المؤكد ان اسرائيل تريد من هذا الافتراء التأكيد بأنه ليس هنالك معتدلون في العالم العربي بدليل ان من هو احد رموز الاعتدال ويقصدون رفيق الحريري يمول «تنظيم القاعدة» ويتعاطف مع اسامة بن لادن، وهو اتهام مردود لأكثر من سبب من بينها ان نظرة الرجل الى النضال العربي من اجل فلسطين تنحصر في المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية وقيام الدولة الفلسطينية، الدائمة وليس الموقتة، وعاصمتها القدس، وإنهاء الاحتلال الاسرائيلي للجولان وما تبقَّى من الارض اللبنانية وأنه في كل اتصالاته وتصريحاته والمحادثات التي يجريها مع قادة العالم لا يخرج عن هذا الاطار، فضلاً عن انه صاحب برنامج للنهوض الاقتصادي والعمراني في لبنان والمنطقة. ومثل هكذا رجل دولة لا يمكن ان يخطر في باله تمويل تنظيم يؤمن بالعنف وفق ما هو شائع عن تنظيم اسامة بن لادن ومن هم معه. ولعل اقصى ما يرى الحريري تقديمه في سبيل انهاء الاحتلال الاسرائيلي هو ما سبق ان فعلته بعض مؤسساته المصرفية والإعلامية عندما نظمت مؤسسته المصرفية حملة تبرع لدعم الانتفاضة في وجه العدوان الشاروني وعندما قادت مؤسسته الإعلامية حملة كشف للزيف الشاروني وبالذات ما يتعلق بقضية الدكتور عزمي بشارة والسعي لمحاكمة شارون امام المحكمة البلجيكية.

في اي حال ان خروج الحريري من المكائد المحلية من جهة والافتراء الاسرائيلي من جهة ثانية جعل الالتفاف الداخلي حول الرجل اقوى، بدليل انه بات في استطاعته اعادة تشكيل حكومته بأقل اشتراطات عليه بعدما كان الى بضعة اسابيع خلت برسم الاستبدال تيئيساً له او شعوراً من جانبه بالاحباط، وجعل القبول الدولي به لا يتأثر بدليل الاستقبال المتميز له في بريطانيا بعد ساعات من نشر الفرية حول تمويله لـ «الارهاب» واستئناف التشاور المتميز بينه وبين صديقه الأكثر قوة من قبل، فرنسياً واوروبياً ودولياً، جاك شيراك، واستعداد البيت الابيض والكرملين لسماع تحليله والنظر في طلباته. وهذه الامور وغيرها هي التي تجعلنا نقول ان الرجل يعيش ازهى ايامه الرئاسية وأنه، واعتماداً على حليفه الدولي شيراك الذي يواصل قوياً بضع سنوات رئاسية، سيستضيف في اكتوبر (تشرين الاول) المقبل القمة الفرنكوفونية المؤجلة اصلاً. وسيكون نجم هذه القمة بعدما قطعوا طريق النجومية امامه في القمة العربية الدورية الثانية يومي 27 و28 مارس (آذار) الماضي، فبدا في تلك القمة على نحو ما لا يحب ولا يرضى... ولا يتمنى.