الموقف الأمريكي لصالح إسرائيل

TT

تعثر قرار الموقف الأمريكي من خطة السلام في الشرق الأوسط، فلم يصدر في موعده يوم الأربعاء الماضي 19 يونيه عام 2002، ويقال في أروقة البيت الأبيض بأن الموقف الأمريكي قد تأجل إلى أجل غير مسمى، على الرغم من تأكيد وزارة الخارجية بأن موعد الإعلان عن موقف واشنطون الجديد يوم الثلاثاء 25 يونيه عام 2002، وهو يوم أمس، مما سيجعلنا نعرف اليوم عند بدء حديثي معكم مدى صدق أو كذب أيهما البيت الأبيض أو وزارة الخارجية.

القضية أكبر بكثير من الصدق والكذب في تحديد الموعد الجديد للموقف الأمريكي من خطة السلام في الشرق الأوسط، لأن المهم ما تتضمنه هذه الخطة السلمية من حلول عملية تدعمها أمريكا بموقفها بالبيان الذي يعلن من البيت الأبيض أو بالخطاب الذي يلقيه الرئيس الأمريكي جورج بوش، بشأن هذه القضية الإقليمية المصيرية بتأثيراتها الساخنة على الأمن في الشرق الأوسط ومردودها القوي على الاستقرار الدولي المعاصر، فالعرب لا يريدون موقفاً أمريكياً خالياً من المضمون لدعم إسرائيل وتمجيد أمريكا، وإنما يريدون خطة للسلام في الشرق الأوسط ترتكز على العدالة وتحسن التعامل مع كافة الأطراف.

يبدو أن الخطة الأمريكية السلمية للشرق الأوسط بعيدة تماماً عن هذا المسار العادل بعد أن كشف مساعدو الرئيس الأمريكي جورج بوش حقيقة الدوافع لتأجيل إعلان موقفه، التي تستهدف بذل مزيد من الضغط لتقدم السلطة الوطنية الفلسطينية كثيراً من التنازلات الجوهرية لإسرائيل حتى تقبل بالصلح معهم والسماح لهم بإقامة الدولة الفلسطينية، وقد أكد هذا الضغط الأمريكي على الفلسطينيين المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض اري فليشر بقوله إن تأجيل إعلان خطة بوش للسلام في الشرق الأوسط لم يأت ارتجاليا يحكمه الهوى السياسي، وإنما جاء مدروسا يحكمه المنطق السليم الذي يستدعي التأكد من إعطاء إسرائيل درجة أكبر من الأمن، وإعطاء الشعب الفلسطيني، أملاً في المستقبل، وهو قول يدل في ذاته على التواطؤ الأمريكي مع إسرائىل، عند إبرام الصلح الذي تمهد له أمريكا تحت مظلة الخطة السلمية، لأن الأمن الإسرائيلي يمكن صياغته من الناحية القانونية، بينما الآمال في المستقبل المعطاة للشعب الفلسطيني لا تزيد عن مجرد كلام تتعذر صياغته من الناحية القانونية، والهدف الأمريكي من ذلك التأكيد على الأمن الإسرائيلي بعيداً عن الأمن الإقليمي وهو أمر مستحيل بالمنطق الاستراتيجي، وفي نفس الوقت يرمي إلى التلاعب بالحق المشروع الفلسطيني في الوطن وإنقاصه إلى مجرد الآمال في المستقبل.

زاد من مغبّة هذا القول بالونات الاختبار السياسي التي أطلقتها أمريكا عن الدولة الفلسطينية التي وعدت بالإعلان عنها في خطة السلام بالشرق الأوسط، بوصفها تارة بالدولة المؤقتة على لسان وزير خارجيتها كولن باول، وتارة أخرى بالدولة ذات الحدود المؤقتة على لسان المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض اري فليشر، والوصفان يخرجان عن إطار أحكام القانون الدولي العام التي لا تقر قيام دول مؤقتة أو دول ذات حدود مؤقتة لأن ذلك يبيح لغيرها من الدول العدوان عليها في المستقبل، وأمريكا لا تجهل هذه الحقيقة، ولكنها تتجاهلها لأنها تريد إعطاء حق العدوان لإسرائيل على الدولة الفلسطينية من بعد قيامها، ويؤكد ذلك ما قاله علناً الرئيس جورج بوش بنفسه عن المباحثات السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين عليهم أن يدركوا تماماً الأدوار المطلوبة منهم قبل قيام دولتهم واقتناعهم بالحقوق المحدودة التي سيستمتعون بها في داخل الوطن الذي سيعطى لهم.

النظرة الموضوعية لحقيقة ما يحدث في داخل المطبخ السياسي بالبيت الأبيض من إعداد للخطة السلمية في الشرق الأوسط، تجعلنا أمام موقف أمريكي ميؤوس منه، لأنه لن يستطيع أن يصل إلى معادلة سلمية عادلة أو قريبة من العدالة بإعطاء الفلسطينيين حقهم في إقامة الدولة أو إلزام إسرائيل بوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني، وقد كشفت لنا صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية، حقيقة ما يدور في داخل البيت الأبيض من حوارات حول خطة السلام الأمريكية بين المستشارين والمساعدين للرئيس الأمريكي جورج بوش بقولها إن الفريق المعتدل منهم يطالب بإقامة دولة فلسطينية مقيدة تتحكم فيها إسرائيل ويكون من مسؤولياتها وقف نزيف الدم للشعب الإسرائيلي بالعمليات الانتحارية، أما الفريق المتشدد الذي يشكل الأغلبية فيطالب بإلغاء فكرة إنشاء الدولة الفلسطينية حتى لا يحتسب على أمريكا مكافأة الإرهاب الفلسطيني في الوقت الذي تعلن فيه الحرب على الإرهاب، ويقولون إن فعلت واشنطون ذلك لتناقضت مع نفسها وفقدت مصداقيتها بين الدول التي تحارب معها الإرهاب الدولي.

انسياق الرئيس الأمريكي جورج بوش مع الرأي المتشدد في داخل البيت الأبيض الواقف ضد قيام الدولة الفلسطينية يثبته عدم الإعلان عن الموقف الأمريكي في الموعد المحدد له، ويؤكده رده العلني على زوجته لورا بأن من حق إسرائيل المطلق الدفاع عن نفسها بكل السبل والوسائل التي تختارها، لينفي ما قالته بأن السور الذي تبنيه إسرائيل حول نفسها يعيق العملية السلمية التي تسعى إليها أمريكا، وهمس في أذن زوجته لورا بأن ما قالته يوقعها في نفس المنزلق الذي وقعت فيه هيلاري كلينتون عندما كانت سيدة البيت الأبيض بقولها إن توحيد القدس يعيق العملية السلمية في الشرق الأوسط، وذكرها بالمعاناة التي سببها قولها لزوجها الرئيس بل كلينتون والاعتذارات التي قدمتها عن قولها حتى ترضى عنها إسرائيل، ولولا هذا الرضا عنها لما فازت بمقعدها في الكونجرس عن ولاية نيويورك.

هذا الخنوع الأمريكي للنفوذ الإسرائيلي جعل واشنطون تنتقد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بإرسال لجنة دولية إلى الشرق الأوسط لتقوم بالتحقيق في معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين داخل الاراضي المحتلة، وصدر عن الخارجية الأمريكية بيان يعترض على قيام هذه اللجنة ويطالب بمنع إرسالها لأنها لن تستطيع القيام بالتحقيقات المطلوبة منها وتعجز عن تقديم حلول للمشاكل القائمة بين الإسرائيليين الذين تحترم دفاعهم عن النفس ولا تقر الإرهاب البشع الذي يمارسه الفلسطينيون بالعمليات الانتحارية في الاوساط المدنية اليهودية، واختتمت الخارجية الأمريكية بيانها بأن على الأمم المتحدة مراعاة عدم اهدار أموالها في قضايا دولية لا حلول لها.

الاعتراف الأمريكي بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من القضايا الدولية التي لا حلول لها يؤكد العبث السياسي الدائر اليوم في داخل البيت الابيض الرامي إلى فرض الحل بالقوة بالتعاطف مع العدوان الإسرائيلي والتصادم مع الحق الفلسطيني، ولذلك فإن أمريكا لا تريد دخول غيرها من الدول منفردة أو تحت مظلة الأمم المتحدة للمشاركة في العملية السلمية لأنها لا ترغب في حل دولي يستند إلى منطق العدالة وتصر على الحل الأمريكي المنفرد الذي ينصر الجور الإسرائيلي على الحق الفلسطيني.