بين التصلب والبحث عن مخرج

TT

أراد جورج بوش أن يبقى بعيدا عن النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وفيما بعد أدرك ان على رئيس أميركا أن يبقى مرتبطا بالقضية ـ حتى لو لم تكن لديه خطة محددة وكانت المشكلة معقدة. والآن قد يضطر بوش أيضا لتبني موقفاً مغايراً بشأن قضية الأسواق الناشئة.

عندما تولى بوش السلطة لم يكن مرتاحا للقضايا العالقة، فقد اعتقد ان هيمنة الولايات المتحدة أعاقت الأسواق الناشئة عن حل مشاكلها الخاصة، تماما كما اصر على ان مساعي الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لن تؤدي الى نتائج إيجابية ما لم يقرر طرفا النزاع بقناعة ذاتية المضي بشكل جاد في مفاوضات السلام. واعترض مستشار البيت الأبيض للشؤون الاقتصادية لاري ليندسي على تدخل أميركا في الأزمة الآسيوية، فيما تبنى وزير الخزانة بول أونيل نفس الموقف خلال الأشهر الأولى لتوليه المسؤولية.

وفلسفة عدم التدخل لقيت ترحيبا في بعض الأحيان، حتى ان بوش عندما ساند تقديم مساعدة عاجلة لتركيا اضطر لطرح ان الأمر كان حيويا للغاية، وهي وجهة نظر طغت مجددا منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الماضي. كما إنه ساند حملة فاشلة لإنقاذ اقتصاد الأرجنتين خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، على الرغم من عدم تعاطفه معها. لكن مساعدي بوش، وخلال شهري ديسمبر (كانون الاول) ويناير (كانون الثاني)، تراجعوا عن الحملة وسمحوا للأرجنتين بالانهيار، وهذه المرة لم يكن الأمر مجرد محاولة للإنقاذ بل ان فلسفة بوش باتت واقعا.

ولبعض الوقت أثبتت هذه الفلسفة نجاحها، على الرغم من حدوث أعمال شغب وفوضى سياسية، فالإدارة الأميركية أوضحت رسالتها بأن على الارجنتين أن تتخلص من سياساتها الاقتصادية الفاشلة. يضاف الى ذلك ان المخاوف المتعلقة بانتشار فوضى الأرجنتين في دول أخرى لم تكن في محلها أصلا، على اعتبار ان تهديد «الملامسة» مثل عملياً أحد مبررات التدخل، وإن غيابه اعتبر نصرا لسلوك بوش المتعلق برفع اليد. لكن وبعد مضي ستة أشهر، يبدو ان ذلك النصر بات وهما، فها هي العدوى تنتشر حيث اضطر أصحاب رؤوس الأموال الذين يشعرون بالقلق، لسحب أموالهم من مصارف أوروغواي المجاورة، الأمر الذي أشعل أزمة هناك وأجبر الحكومة على تعويم عملتها المحلية. وتشعر دول أميركا اللاتينية الأخرى، التي يحتفظ نظامها المصرفي بودائع نقدية هائلة، بالخطر. كما ان أصحاب الدولارات في الأرجنتين باتوا يشعرون بأنهم وقعوا ضحية، الأمر الذي جعل نظراءهم في أماكن أخرى يشعرون بالانزعاج. وفي الوقت نفسه فقد أدى فشل السياسات الاقتصادية في الأرجنتين الى اثارة المشاكل في دول أخرى، ففي بيرو أدت أعمال الشغب المناهضة للخصخصة الى سقوط قتيلين. وهناك أيضا البرازيل، التي لم تمتد قوتها في كرة القدم الى الشؤون الاقتصادية. فالعملة المحلية للبرازيل باتت تتدحرج، وبدأ المستثمرون في طرح أسئلة عما إذا كانت البرازيل هي الأخرى في الطريق الى أزمة. كما ان هناك أسباباً داخلية تدعو للقلق، فمرشح الرئاسة اليساري يحقق تقدما، وديون البرازيل بلغت أرقاما خيالية. في الوقت الذي تثير فيه مخاوف انتشار العدوى من الأرجنتين مزيدا من القلق، فالمستثمرون الذين راقبوا انهيار الارجنتين، ينتظرون انهيار الدولة الأخرى. وهكذا فانهم يرفعون معدلات الفائدة إلى مستويات عليا، الأمر الذي يضاعف من احتمالات الذوبان المخيف. على أن ما يطرح التساؤلات بشأن موقف بوش المعارض للتدخل ليس فقط العدوى. ففكرة ان سياسة رفع الأيدي قد تدفع الدول لتحسين أسلوب ادارتها لشؤونها الاقتصادية، تبدو هي الأخرى موضع قلق. وبعيدا عن ترتيب أوضاع بلادهم الداخلية، تنقل قادة الأرجنتين من أزمة لأخرى، وفشلوا بشكل متواصل في تحقيق الاستقرار الذي يمكن الشعور به. وفي آخر المؤشرات على حالة الارتباك اضطر محافظ المصرف المركزي للاستقالة يوم 21 يونيو (حزيران) الماضي بعدما شعر بالاحباط، كما اندلعت أحداث شغب خلال الاسبوع الماضي. الادارة الأميركية قد تكون بعثت برسالة صارمة للأرجنتين، لكن لم يظهر ما يشير الى أن الأرجنتين قد استفادت.

وهذا الوضع يجب ألا يفاجئنا. فالفوضى التي حدثت خلال الثمانينات ولم يتسن التعامل معها أشعلت موجة من السياسات المجنونة في أنحاء أميركا اللاتينية، بينما أدت سياسة بيل كلينتون بشأن دعم هذه الدول الى التخفيف من حدة الأزمة، فعقب انهيار عام 1982، على سبيل المثال، قامت المكسيك بتأميم مصارفها، لكن على عكس ذلك، قامت المكسيك خلال عام 1995، وبعد إنقاذها من قبل ادارة كلينتون، بتبني سياسات مستقيمة. وقد يكون الطرح الذي يتبناه أنصار عدم التدخل بأن الأزمة هي دواء لا يمكنه معالجة سياسات فاشلة ـ في بعض الأحيان مخطئا أيضا، فالأزمات يمكن أن تمثل السم الذي يؤدي الى أسوأ السياسات، سواء فيما يتعلق باقتصادات دول أميركا اللاتينية او بإسرائيل فيما بعد.

وهكذا تواجه إدارة بوش بعض الخيارات الشاقة، فمن ناحية، لا يمكن اعتبار حملات الإنقاذ اسلوبا للعلاج. ومن ناحية أخرى قد تؤدي سياسة الابتعاد الى زيادة عمق المشاكل. وإذا ما تعاظمت أزمة البرازيل العملاقة خلال انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبلة، فهل سيمتنع بوش حقا عن تقديم يد العون؟ لقد طرح وزير الخزانة أونيل مؤخرا انه لا يمكن التمسك بفلسفة عدم التدخل الى الأبد، لكن آخرين في الإدارة الأميركية دفعوه للتراجع بشكل سريع. والرهان هنا هو ان الأمر سينتهي ببوش وقد غاصت قدماه، حتى ولو كانت لديه خطة غير واضحة المعالم وحتى لو كانت الأزمة غير قابلة للحل.

* كاتب متخصص في شؤون الاقتصاد والعولمة

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»