أوهام كاذبة دمرت سياسة واشنطن في مكافحة الإرهاب

TT

عام 1996، تمكن مدير وكالة المخابرات المركزية، جون دويتش، من اقناع وزير الخارجية آنذاك، وارين كريستوفر، بسحب الدبلوماسيين الاميركيين من السودان حرصا على سلامتهم. ومصدر قلق دويتش كان تقارير امنية اشارت باصابع الاتهام الى حكومة السودان. ومع ان السفارة لم تغلق رسميا، الا انها اخليت، وبلغت العلاقات مع الخرطوم درجة قصوى من التوتر.

ولكن الـ«سي آي ايه» سرعان ما توصلت الى ان تحليلها كان خاطئا. ودارت التكهنات حول احتمال قيام واحد من المصادر الاساسية بتحوير المعلومات او اختلاقها بالكامل. وفي العام نفسه، قامت الوكالة بشطب اكثر من 100 من تقاريرها عن السودان. ولكن هل بادرت وزارة الخارجية باعادة موظفيها الى الخرطوم؟

لا، لم يحدث هذا، بل اكتسبت المعلومات الاستخبارية الخاطئة مناعة خاصة بها، وظلت حالة فقدان الثقة على ما كانت عليه. بل اصبحت السفارة نفسها نوعا من كرة سياسية ودبلوماسية، تقذف بها في كل اتجاه، ارجل صناع القرار والنشطاء، الذين كانوا راغبين في عزل حكومة الخرطوم حتى توقف حربها الاهلية الدموية مع الجنوب ذي الطبيعة المسيحية الغالبة. وما تزال السفارة حتى اليوم خالية من اغلب موظفيها.

وقد رأينا انه من المهم ان نورد هذه الحكاية في هذا الموضع. ويجدر القول ان ادارة بوش ظلت تعطي تقارير المخابرات الاميركية (والاجنبية في بعض الاحيان) وزنا غير عادي، سواء تعلقت هذه التقارير بملاحقة الارهابيين في افغانستان، او بالحكم على استقامة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، او بالتوسط لحل النزاع الهندي ـ الباكستاني، او بتحديد مزايا الهجوم على العراق. وما دامت الولايات المتحدة تشن الحرب على الارهاب، وما دام الكونغرس ينصرف الى اعادة تنظيم اجهزة المخابرات، فان نفوذ هذه الاجهزة مرشح دون شك للاتساع.

ولكن صناع القرار الاميركيين يجب ان يكونوا اذكياء في استخدامهم للمعلومات الاستخبارية. ويوضح المثال السوداني كيف يمكن للمعلومات الاستخبارية الرديئة، او المعلومات الاستخبارية الجيدة، التي تستخدم بشكل رديء، ان تضر بمصالح الولايات المتحدة. وقد ادت المعلومات الاستخبارية الرديئة في السودان عام 1996، الى تشويش رؤيتنا للاسلام السياسي، واضعفت مقدرتنا على التدخل لانهاء الحرب الاهلية التي استمرت 47 عاما، واضاعت علينا الفرصة النادرة في القبض على اسامة بن لادن وخنق منظمته، قبل طرده من السودان وسفره الى افغانستان.

اننا نكتب هذا استنادا الى تجاربنا وانطلاقا منها. كان احدنا (تيموثي كارني)، الدبلوماسي المحترف، آخر سفير للولايات المتحدة في السودان، كما ان الآخر (إعجاز) مدير صندوق الاستثمارات المغامرة، لعب دورا غير رسمي يتمثل في حمل رسائل عدة بين الخرطوم وواشنطن بعد اغلاق السفارة. وربما لا يكون الفشل الاستخباري في السودان متعلقا بحماية الدبلوماسيين الاميركيين في الخرطوم، بقدر ما كان متعلقا بتفهم المناخ السياسي في كل انحاء العالم الاسلامي. ان ما يستحق التنبيه اليه في حالة السودان هو التالي: تجاهل البعد السياسي وغيابه في خضم التركيز على الارهاب.

خلال التسعينات، حاول بعض المسلمين الملتزمين في كل انحاء العالم، تكوين حركة سياسية لتجسير الهوة بين العالم المعاصر وبين النصوص العائدة الى العصور الوسطى. لكن الولايات المتحدة بدلا من التعاطي مع هذه الحركات، وضعت جميع الحركات الاسلامية في سلة واحدة وتعاملت معها جميعا كمصادر للخطر. وحافظت بالتالي على علاقاتها مع النظم الشمولية التي كانت تستشعر خطر هذه المجموعات الاسلامية، مما جعل الحركة الاصلاحية الاسلامية تسلم قيادها للعناصر الراديكالية.

اصبحت الخرطوم مركزا هاما للنشاط السياسي الاسلامي. وذلك بعد ان استولت على السلطة، عن طريق الانقلاب العسكري، عام 1989، الجبهة الاسلامية القومية، التي يقودها خريج السوربون ذو المزاج الناري، حسن عبد الله الترابي. كان الترابي يعقد مؤتمرات سنوية تجذب آلاف الراديكاليين الاسلاميين الى الخرطوم لصياغة رؤيتهم. وقد وصف الترابي هذه المؤتمرات بانها جلسات للحوار، الغرض منها دفع المواقف الاسلامية المتطرفة الى مواقع الاعتدال. ولكن الحكومة الاميركية وصفتها بانها مؤتمرات للتخطيط الارهابي، وبدلا من اختراقها والوقوف على اسرارها، طلبت من الخرطوم حل المؤتمر ووقف اللقاءات.

وبالطبع، كان الترابي يثير شكوكا عميقة وسط حلفاء الولايات المتحدة (في عدد من البلدان العربية والافريقية). وقد اعتمدت واشنطن على قراءة هؤلاء للاوضاع في السودان، عوضا عن الاعتماد على عينيها واذنيها. وكانت هناك اسباب حقيقية للقلق. فحكام السودان الجدد، اقاموا علاقات بعيدة المدى مع الجماعات الارهابية في الشرق الاوسط. وصل بن لادن واتباعه عام 1991، وتسلم «الشيخ الضرير» عمر عبد الرحمن، المصري، الذي ادين في ما بعد بالتخطيط لتفجير معالم هامة بمدينة نيويورك، تأشيرته الاميركية من الخرطوم عام 1993، ولكن بحلول عام 1995، بدأ كثير من الزعماء السودانيين يتساءلون عما اذا كان احتضانهم للمسلمين الراديكاليين الاجانب، يهزم اهدافهم نفسها، كونه يهدد الامن الداخلي ويغلق ابواب الخرطوم امام العالم كله. لكن عندما قبلت الخرطوم بمساعدة فرنسا في القبض على الارهابي الخطير المعروف بـ«كارلوس الذئب»، فسر المحللون الاميركيون هذا الاجراء على اساس انه رشوة تقدمها الخرطوم الى الغرب، وليس تغييرا في سياستها تجاه الارهاب.

المعلومات الاستخبارية الرديئة، تشمل الاتهامات الجائرة مثلما تعني التحليل السياسي الفقير. التقارير الكاذبة حول هجمات ارهابية ضد الاميركيين جعلت السفير الاميركي دونالد بيترسون، يهدد السودانيين «بتدمير اقتصادكم»، والقيام «باجراءات عسكرية تجعلكم تدفعون ثمنا فادحا». وقد عبر خلفه، تيموثي كارني، المشارك في كتابة هذا المقال، عن آراء شبيهة بتلك التي عبر عنها سلفه، وذلك في أواخر عام 1995، وقد ادى التركيز على المعلومات الاستخبارية الكاذبة الى تجاهل الدعوات الى الاستجابة لمطالب الجنوبيين السودانيين المحاصرين من كل الجهات.

المعلومات الاستخبارية الرديئة دمرت سياسة الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب في اغسطس عام 1998، عندما قامت صورايخ كروز الاميركية، انتقاما من الهجمات على سفارتي الولايات المتحدة بنيروبي ودار السلام، بضرب مصنع للادوية في الخرطوم، ادعت واشنطن انه كان يستخدم في صناعة عناصر اسلحة كيماوية. ولم تكن ادارة كلينتون، في البيت الابيض، تملك حتى المعلومات الاولية عن ذلك المصنع، مثل: من كان يملكه في تلك اللحظة. وبدلا من التحري والتدقيق، اعتمد الرئيس على ادعاءات غير موثوقة، بان للمصنع علاقة باسامة بن لادن.

جذور الفشل الاستخباري تمتد الى تقارير قدمها اعداء الخرطوم، وخاصة في اريتريا واثيوبيا ومصر. واذا كان موظفو السفارة الاميركية لم يغادروا مواقعهم الميدانية، فربما كان بمستطاعهم تحديد الاهداف الصحيحة، او كان يمكن، على الاقل، ان يوقفوا هجمة ادت الى تفجير التعاطف مع الراديكاليين المصممين على مهاجمة الولايات المتحدة. هذا الخطر اخذ يظهر مؤخرا من جديد، في كل مرة تصوب فيها الولايات المتحدة ضرباتها نحو اهداف بعيدة وخاطئة في كثير من الاحيان، في افغانستان وغيرها، معتمدة على معلومات استخبارية من مصادر تحوم حولها الشبهات. بعد ذلك فترت همة الخرطوم في إنشاء دولة ايديولوجية اسلامية، اذ تفوق البراغماتيون على المنظرين. وفي عام 1996 حاولت الخرطوم، كما اوردت صحيفة «الواشنطن بوست»، التعاون في مكافحة الارهاب، فقد وصل حينذاك، الى واشنطن، وزير الدولة في وزارة الدفاع (سفير السودان الحالي لدى الامم المتحدة)، اللواء الفاتح عروة، لعرض صفقة على الولايات المتحدة تتلخص في تسليم بن لادن الى المملكة العربية السعودية، مقابل تخفيف العقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة على السودان، بيد ان الرياض رفضت تسلم بن لادن.

وتحت إلحاح نائب مستشار الامن القومي الاميركي السابق، صامويل بيرغر، قرر السودان إبعاد بن لادن عن اراضيه عقب عرض تسليمه الى السلطات الاميركية. وفي يوليو من نفس العام منح السودان السلطات الاميركية اذنا لتصوير معسكرين كانا يستخدمان في تدريب عناصر ارهابية، غير ان واشنطن فشلت في المتابعة. وفي اطار التطورات المتلاحقة بعث الترابي، في اغسطس من العام نفسه، «غصن زيتون» لكلينتون عبر إعجاز، الا انه لم يتلق ردا عليه. اما قطبي المهدي، الذي عين مديرا للامن الخارجي، وهو من المسؤولين السودانيين الذين تلقوا تعليمهم فوق الجامعي في الغرب، فقد اطلع اعجاز على معلومات امنية حساسة حول تعقب ارهابيين، عبر الخرطوم، طالبا منه ايصالها لادارة الرئيس كلينتون. وبنهاية انتخابات الرئاسة الاميركية عام 1996، اطلع كبار مسؤولي ادارة الرئيس كلينتون، على المعلومات التي قدمتها الخرطوم وقيمتها بغرض تحديد الخلايا الارهابية حول العالم ومراقبتها وتفكيكها، لكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك. ثمة تغيير آخر حدث في تفكير السودان في ابريل 1997، فالحكومة السودانية اسقطت طلبها الخاص برفع واشنطن العقوبات لقاء التعاون في مكافحة الارهاب. وبعث الرئيس السوداني خطابا، عبر اعجاز، الى السلطات الاميركية عارضا وضع كل المعلومات الامنية المتوفرة لدى اجهزة الامن السودانية تحت يد وحدات مكافحة الارهاب التابعة لـمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. احدث التحول في سياسة الحكومة السودانية جدلا في اوساط وزارة الخارجية الاميركية، حيث اعتقد ضباط الخدمة الخارجية ان الولايات المتحدة ينبغي ان تتعامل مجددا مع السودان. وبنهاية صيف عام 1997، اقتنعت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت بالسماح بعودة، جزء على الاقل، من الطاقم الدبلوماسي الاميركي في سفارة واشنطن لدى الخرطوم، بغرض الضغط باتجاه التوصل الى حل للحرب الاهلية، ومتابعة العروض التي قدمتها الحكومة السودانية في مجال مكافحة الارهاب، وصدر اعلان رسمي بذلك في اواخر سبتمبر من العام نفسه. ولكن مستشار شؤون الارهاب بمجلس الامن القومي آنذاك، ريتشارد كلارك، وخبيرة شؤون القارة الافريقية بالمجلس سوزان رايس، التي كانت على وشك التعيين في منصب مساعدة لوزيرة الخارجية للشؤون الافريقية، اقنعا صامويل بيرغر، الذي كان مستشارا للامن القومي، بنقض قرار اولبرايت. وبالفعل تراجعت وزارة الخارجية عن السياسة الجديدة تجاه السودان بعد يومين فقط. وفي محاولة اخيرة لإيجاد سبيل للتعاون مع السلطات الاميركية، كرر رئيس جهاز الامن الخارجي السوداني، قطبي المهدي، عرضه السابق غير المشروط باطلاع مكتب التحقيقات الفيدرالي على معلومات حول النشاط الارهابي، وذلك في خطاب وجهه في فبراير 1998، الى المسؤول عن قسم الشرق الاوسط وشمال افريقيا في مجلس الامن القومي، ديفيد ويليامز، الا ان سوزان رايس والبيت الابيض اعترضا على ذلك. وفي يونيو من العام نفسه، كتب ويليامز الى قطبي المهدي مبلغا اياه بأنه (ويليامز) «ليس في موقع يمكنه من قبول العرض السخي الذي تقدم به». وبعد مضي ستة اسابيع على ذلك تعرضت سفارتا الولايات المتحدة في كل من نيروبي ودار السلام الى هجوم اودى بحياة كثيرين. عدلت ادارة كلينتون من موقفها تجاه السودان قبل الهجوم على المدمرة الاميركية «يو اس اس كول»، بارسالها خبراء في مكافحة الارهاب الى العاصمة السودانية، لإلقاء نظرة على الاوضاع، ولكن بعد فوات الاوان. ما زلنا نعيش النتائج التي ترتبت على سياسة الولايات المتحدة وفشلها الاستخباراتي في السودان. فالخرطوم قدمت للولايات المتحدة افضل فرصة للسيطرة على الاسلاميين، ووقف بن لادن منذ وقت مبكر. فإذا جرت محاسبة للولايات المتحدة على فشلها في السودان، والذي ادى الى وقوع هجمات 11 سبتمبر (ايلول)، من الضروري فهم جوانب هذا الفشل. فالمعلومات الاستخبارية الموثوقة، التي تمثل اساسا صالحا لاتخاذ القرارت ورسم السياسات، يمكن ان تولد الحكمة الضروروية للتمييز بين الولايات المتحدة من جانب واولئك الذين يريدون تدميرها من الجانب الآخر.

*عمل تيموثي كارني سفيرا للولايات المتحدة لدى السودان من اغسطس 1995 حتى نوفمبر 1997. اما منصور اعجاز، فهو مسلم اميركي الجنسية، من اصل باكستاني، نقل العرض الذي قدمته حكومة السودان الى السلطات الاميركية عام 1997 ـ آراء كارني لا تمثل وجهات نظر الحكومة الاميركية.