الإصلاح في إسرائيل أسرع الطرق إلى السلام

TT

هل السلطة الفلسطينية هي بالفعل الوحيدة المحتاجة للاصلاح ولتغيير الرئيس؟ أليس الاصلاح مطلوبا في النظام والقوانين والرؤى الاسرائيلية وبالحاح، كونه افضل الطرق وصولاً للسلام والتعايش؟ ولو افترضنا جدلاً صحة ما تقوله الادارة الاميركية حول تعطيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للسلام، فهل هناك من يصدق ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون يريد السلام ولو من المنظور الاميركي؟ اذا نحينا جانباً الشعارات والروايات المخصصة للاستهلاك المحلي والدولي، سنجد ان الاصلاح والديمقراطية مطلوبان بالحاح في فلسطين واسرائيل، بل ان الاخيرة بحاجة الى تحرير ذاتها من السياسة والقوانين والرؤية والممارسة العنصرية. وربما كان هذا التقصير الاسرائيلي سبباً لاستمرار الصراع، او ان الصراع هو السبب لنمو الفساد بانواعه، والحرمان من الديمقراطية، لكن الحقيقة ان شقي الارض المقدسة بحاجة ملحة للاصلاح الداخلي والسلام كما يتضح من مسار الاحداث اليومي عند الطرفين.

ان النظام السياسي في اسرائيل مثلاً يوفر للاحزاب الصغيرة فرصة ابتزاز الحكومة، بينما الاحزاب الكبيرة في فلسطين (المنظمات والحركات المسلحة) تسيطر على الاغلبية بطرق واساليب شمولية، وذلك بدون تخويل انتخابي وايضاً بدون انجاز انتصارات عسكرية او تصد يرفع الرأس، كل ما هناك هو الترويج لوحدانية اسلوب الكفاح المسلح كطريق للتحرر وتلويحها برشاشات الكلاشنيكوف واطلاق النار في الهواء.

وكان رئيس وزراء اسرائيل الأسبق اسحاق رابين قد تنبه لخطورة الاحزاب الصغيرة على رئاسة الوزراء فقرر تعديل النظام بما يسمح لانتخابات رئيس الحكومة مباشرة من الشعب، حتى لا يتكرر في اسرائيل ما حصل في المانيا الثلاثينات حين ارتضت الاحزاب الاكبر تنصيب زعيم حزب صغير كحل وسط لخلافاتها، فجاء هتلر للحكم. بعد الحرب العالمية الثانية اصلح الالمان نظامهم ومنعوا أي حزب من دخول البرلمان اذا لم ينل خمسة في المائة من اصوات الناخبين. اسرائيل لم تحدد نسبة دنيا معقولة لدخول الاحزاب لبرلمانها، فكثرت احزابها الصغيرة ولم يتم اصلاح نظام انتخاب رئاسة الوزراء.

القيادة الفلسطينية تهربت على الدوام من النقد ومن التعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية والادارية بحجة انها حركة تحرر، وان «القضية تمر في المنعطف الخطير» اياه، ولذلك لم تتحرك بعمل شيء الا بالاكراه. اسرائيل كذلك لا تتعامل مع قضاياها السياسية والاجتماعية الا بعد ان تنفجر كما نشاهد في تكرار الازمات الائتلافية، اما الانفجار الاسرائيلي القادم فقد يكون من قبل حركات السلام المتنامية والعلمانيين الذين يمثلون الشعب اكثر من حكومة شارون، وقد يشتعل الانفجار من جراء ضغط خارجي لفرض السلام، لكن على الارجح ان الاسرائيليين العرب سوف يتسببون في الانفجار القادم، وذلك حسب تحذير عدد من الخبراء الاسرائيليين الذين يرون ان سياسة التمييز خطيرة وتهدد بانفجار العنف. لقد قال المراقب الرسمي للدولة اليعزر غولدبرغ في تقريره السنوي الاخير ان سياسة اسرائيل تجاه المليون عربي اسرائيلي «لم تعد محتملة ومن الصعب تبريرها»، فهم يشكلون 18% من اجمالي المواطنيين الاسرائيليين، ولكنهم يشكلون نسبة 44% من الفقراء، ونصف الاطفال الفقراء في اسرائيل هم عرب، كما ان 33 في المائة من العاطلين هم من بين المواطنين العرب و41 في المائة من الذين لم ينهوا دراستهم الثانوية عرب و41% من الموتى الاطفال في سنهم الاولى هم من العرب الاسرائيليين حسب الارقام الاسرائيلية الرسمية. ذلك الحال يرتقي الى مستوى سياسة التمييز العنصري طراز جنوب افريقيا السابقة، ويتجلى امام أي مقارنة لقرية او مدينة عربية باخرى يهودية صرفة. كل ذلك وغيره الكثير مسكوت عنه تحت غطاء قومية المعركة وان متطلبات التهديد الخارجي لاسرائيل تفرض السكوت والوحدة وتأجيل القضايا.

كان من الممكن لاسرائيل ان تتجنب معظم مشاكلها وحروبها لو عاملت مواطنيها العرب ضمن القانون والمساواة مع المواطنيين اليهود القادمين من الخارج. وحتى بعد حرب سبعة وستين واحتلال بقية فلسطين استمرت سياسة التمييز واهدرت اسرائيل فرصة تحسين مستوى حياة السكان في المناطق المحتلة. لو تعامل النظام السياسي الاسرائيلي بتساو وقانون مع العرب تحت السيطرة الاسرائيلية القديمة (48) والجديدة (67) لما وجدت الحاجة بين الفلسطينيين للبحث عن دولة مستقلة بأي ثمن، لكن السياسة الاسرائيلية المنهجية اوصلت الفلسطينيين الى وضع لا يوجد لديهم ما يخسرونه، فكانت النتيجة حروباً وفوضى وفساداً ادارياً وسياسياً وتمييزاً عنصرياً في اسرائيل بحاجة ملحة للاصلاح. الطرف الفلسطيني هو الاضعف سياسياً وعسكرياً واعلامياً والافقر اقتصادياً (متوسط فارق الدخل بين تل ابيب وغزة واحد الى خمسين)، وهو بالتالي الاشد حاجة للاصلاح والديمقراطية. اذا كانت سرعة تغيير الحكومات، قبل اوانها في اسرائيل تأتي من الخلافات الحزبية، كعلامة تعكس ضرورة لاصلاح النظام السياسي، فان النقيض السلبي يتوفر لدى الفلسطينيين. الاحزاب والفصائل المسلحة تسيطر على الساحة السياسية واتخاذ القرار، وهي فصائل غير ديمقراطية حسب تركيبتها او نهجها ولا تجتمع هيئاتها الحزبية الا نادراً، ولم تتغير زعاماتها الا بالموت (ما عدا مثال الجبهة الشعبية اذ تنحى جورج حبش بسبب المرض) ولا تراجع اخطاءها او تغير نهج تفكيرها، كما انها لا تعتمد على خزانات فكرية او حتى بيروقراطيين وانما تخضع لرؤى الزعيم وارضائه.

لقد استعملت القيادات الفلسطينية الحاكمة الفساد كاسلوب شبه رسمي للادارة والسيطرة، وتحكمت في الوضع عبر الرشاوى والتهديد بالقوة، وغطت على سياستها بادعاء ان اولويات التصدي للعنف والاحتلال الاسرائيلي تفرض تأجيل قضايا الاصلاح والديمقراطية، وها هي يومياً تتخذ من الاحتلال والعنف الاسرائيلي ذريعة للتملص من المطالب المحلية والدولية بالاصلاح والديمقراطية، ويتبرع الاحتلال بدوره باعمال تسهل مهمة التملص هذه، فالاصلاح الحقيقي والديمقراطية الفعلية ليسا في صالح القيادات الفلسطينية او الاحزاب اليمينية الاسرائيلية الحاكمة الآن.

الاصلاح والمنطق والشرف يتطلب تنحي او تنحية الذين تسببوا في هذه الكارثة للفلسطينيين، وهم بالمناسبة الذين تسببوا في كوارث مماثلة سابقة في بلدان اخرى دون ان يحاسبوا، ونجحوا في تصوير الامر كنصر مبين. بامكان الرئيس عرفات ان يغير كل الوضع ببضعة قرارات ديكتاتورية، كالعادة، تكون هذه المرة لصالح مستقبل القضية، وتمهيداً وانتظاراً لفرصة تنفيذ الانتخابات، لكنه لن يفعل لان اسلوبه هو الترقيع بتجميع المطيعين من حوله وليس المؤهلين بالضرورة، وبالطبع فلن يتنازل عن الكرسي لانه يظن ان الشعب الفلسطيني سيضيع من بعده، ولن يعين نائباً لانه يشك في الجميع ايضاً.

بامكان الرئيس الفلسطيني القيام بعشرات الخطوات الايجابية غير المرتبطة بالاحتلال ودون انتظار انتخابات، وأقلها تعيين نائب له مؤهل ومقبول يضمن الديمومة في غياب الرئيس ومساعدته. هناك ايضاً خطوة الاسترشاد بآراء الشخصيات التي لا تطأطئ رأسها له ليرشدوا شعبهم وحكومتهم للطريق الافضل في حقل الالغام اليومي، لكن عرفات لن يفعل ذلك تماما، كما سيحاول شارون حل ازمة النظام السياسي الاسرائيلي بالترقيع والرشاوى للاحزاب الصغيرة ويواصل سياسة التمييز العنصري ضد المواطنيين العرب في انتظار الانفجار القادم في احدى شقي الارض المقدسة.