قيصر العولمة قد لا يحتفظ بالتاج طويلا

TT

يخطئ من يعتقد ان العولمة تتجه الى امركة العالم. صحيح ان الحجج والوقائع التي اوردت تفيد بما يرسخ الاعتقاد بان الامركة والعولمة تكاد تضيق الحدود بينهما، على اعتبار ان العديد من خصائص الحياة الاميركية صارت سائدة في العالم، ابتداء من الروح الفردية واقتصاد السوق والديمقراطية، ومرورا بانتشار انواع المستهلكات التي تحفل بها الحياة الاميركية مثل المشروبات الغازية وملابس الجينز والهمبرجر والثقافة الشعبية (البوب) وموسيقى الراب، وانتهاء بالتأثير الذي تمثله صناعة السينما والفيديو والتلفزيون الاميركية، وهيمنتها على المستوى العالمي وبما ادى، ليس فقط الى التعاطي مع خصائص الحياة الاميركية، وانما ايضا، الى انتشار اللغة الانجليزية. الامر الذي جعل الالمان على سبيل المثال يدعون لاقامة «حائط برلين» جديد، بهدف المحافظة على لغتهم، ودفع الفرنسيين الى اتخاذ مجموعة من القوانين والاجراءات لمحاولة التصدي للتحدي الذي بات يتهددهم بفعل الغزو اللغوي الاميركي.

كما ان التاريخ طالما اكد لنا ان بعض خصائص الحضارة المهيمنة، وبالتالي الدولة المهيمنة، يسود في حقبة معينة، ومؤكد ان الصدارة الاميركية بشموليتها تعزز الاتجاه الاميركي في العولمة، وبالتالي تجعل العديدين في العالم يبدون مسحورين بنموذج الحياة الاميركية، ولكن كم عدد هؤلاء؟

البروفسور صموئيل هنتغتون، يعترف بان عدد من تأسرهم الامركة لا يمثلون سوى 1 % من تعداد العالم. فضلا عن ذلك، فقد شهدت مسيرة التاريخ انتقال ازياء وموضات واكلات، وحتى مفردات لغوية معينة من مجتمع الى اخر، ومن حضارة الى اخرى، ومن شعب الى اخر، دون ان يكون لذلك تأثير على القيم والمقومات الثقافية للحضارة المستقبلة او الشعب الذي يتقبل ذلك. كما ان عمومية الاهتمام الانساني بالحب والجنس والعنف والثروة والغموض التي تحفل بها صناعة السينما في هوليود، وقدرة الشركات المسيطرة على هذه الصناعة في استغلال تلك الاهتمامات لصالحها لتحقيق الربح، لا يقدم الدليل الذي يدعم الافتراض القائل بان ظهور وسائل الاتصال الكونية وانتشارها يؤدي الى تحول في الاتجاهات والافكار بشكل حاسم، بما يعزز الامركة في العالم. واكثر من ذلك، ان الصور المرئية في أنحاء العالم تؤدي الى تصورات عكسية، فما يعتبر سيطرة اعلامية يعتبر من منظور معاكس استعمارا ثقافيا وغزوا اعلاميا، وهذا ما شجع إنتشار صناعة اعلام محلية واقليمية لخدمة الأذواق المتمايزة الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات الانسانية.

وفيما يتعلق بهيمنة اللغة الانجليزية واتساع نطاقها، علينا ان ننظر الى ذلك بحذر. فالاحصاءات تقول ان نسبة عدد السكان الذين يتكلمون اللغات الاوربية الرئيسية الخمس (الانجليزية ـ الفرنسية ـ الالمانية ـ البرتغالية ـ الاسبانية) انخفضت من 24.1 % في 1958 الى 20,8 % في 1992. وان 15,2 % من سكان العالم يتكلمون الانجليزية قي تسعينيات القرن الماضي. ومع اعتبار الانجليزية لغة الاتصال الأشمل، فأن ذلك لا يجعلها مصدراً للهوية أو دليلا على الامركة. فرجل الاعمال الصيني الذي يتكلم الانجليزية لا يعني انه تغرب أو انتمى للقيم الانكلوسكسونية. يضاف الى ذلك، ان الذين يتكلمون الانجليزية في انحاء العالم، اخذوا يتكلمون إنكليزيات مختلفة: فقد صارت اللغة الانجليزية تطوع محلياً وتأخذ صفات خاصة تميزها عن الانجليزية البريطانية أو الاميركية: فالانجليزية الهندية باتت تأخذ سماتها الخاصة : فهي «تهند» أو تطوع محلياً فتنمو الفوارق بين الناطقين بالانجليزية بألسنة مختلفة حتى يبلغ ذلك مدى بعيداً فتصبح إنكليزيات غير مفهومة لبعضها الأخر. كما إن ضغوطا اجتماعية وسياسية متزايدة تؤدي الى استخدام اللغات المحلية في العديد من البلدان التي كانت تستخدم الانجليزية، فالاوردو تستأصل الانجليزية كلغة للحكومة والتعليم في باكستان وتحل محلها، ولغات اعلام محلية تحل محل لغة الاعلام الانجليزية في الهند.

وبذلك يمكن للمرء ان يخلص الى نتيجة رئيسية الا وهي: ان العولمة لا تسير بالعالم نحو حضارة كونية واحدة بأي معنى من المعاني، ولا تتجه به الى الامركة، بل ان العالم يسير نحو التعدد الحضاري والتنوع الثقافي اكثر فاكثر، وان ميزان القوى بين الحضارات يتغير، فالغرب يتدهور في تأثيره النسبي، بينما الحضارات غير الغربية عموماً تعيد تأكيد ذاتها، وبشكل خاص الحضارات الاسيوية. كما ان مزاعم اميركا في العولمة تجعل الشعوب المختلفة تتمسك بصورة متزايدة بهوياتها الثقافية وعلى نحو متعصب في معظم الاحيان، وتاليا، فان الاتجاه نحو العولمة يرادفه اتجاه متصاعد نحو النزعة الاقليمية وبشكل اكبر نحو المحلية. وهذا ما يؤدي الى نزعات الانفصال والانشطار داخل الدول كنتيجة لتصاعد النزعات المحلية والهويات العرقية. اما فيما يتعلق باتساع الديمقراطية واقتصاد السوق، فمع ان ما يحدث بالنسبة لاقتصاد السوق وما يرتبط به من خصخصة تعزز الرأسملة المتوحشة، فانه في الواقع سيجعل العولمة تتجه الى تعميم الواقع الافريقي على العالم. فاذا كانت القارة السوداء قد ارتبطت في الاذهان بالجوع والديكتاتورية والصراعات العرقية والقبائلية، فان ملامح المشهد الراهن للعولمة وما ينبئ به من تطورات مستقبلية، يشي بان العالم مقبل على الفقر والجوع والديكتاتورية والصراعات العرقية. وهذا ما حدا باستاذ الاقتصاد في جامعة اتاوا بكندا البروفسور ميشيل تشوسودوفيسكي الى التحدث في كتابه الصادر عام 1998 تحت عنوان «عولمة الفقر»، ليس فقط عن اتساع جغرافية الفقر من افريقيا وجنوب اسيا واجزاء من اميركا اللاتينية ليصيب النمور الاسيوية واوربا الشرقية والبلقان وروسيا فحسب، وانما ايضا الغرب نفسه، بما في ذلك اميركا ذاتها، ليقول ان تحطم دولة الرعاية لم يؤد بالفقر في مناطق الجيتو والاكواخ في المدن الاميركية والاوربية للتزايد فقط، وانما لياخذ شكلا شبيها في العديد من نواحيه لما هو سائد في افريقيا جنوب الصحراء. ومع تزايد الفقر وارتفاع مستويات البطالة تتصاعد النزاعات المدنية والتشققات الاجتماعية والغليان. وما تشهده المجتمعات الديمقراطية في اللحظة الراهنة بسبب تزاوج العولمة مع التكنولوجيا يعيد تشكيل هذه المجتمعات ويخلق التقلصات والتوترات التي تقود الى كل الاحتمالات، وفي مقدمة هذه الاحتمالات التحولات المضادة للديمقراطية عبر تطور نزعة الشمولية العرقية والدكتاتورية الفئوية أو حتى الدكتاتورية الشعبية في ظل الاوضاع العالمية الراهنة التي يمكن ان تدفن الميول الديمقراطية. ومن الطبيعي والاجواء كذلك ان تتعزز الاتجاهات المضادة للديمقراطية ولو بأسلوب غير مباشر. فالصحافي الأميركي، وليم جريدر، يصف اللحظة الراهنة التي تعيشها المجتمعات الغربية بانها «ظرف يسبق المرحلة الفاشية». ويضيف جريدر الى ذلك قوله: «اذ ان كل سياسي يوحي بشيء من المصداقية حينما يعد شعبه بأنه سيحقق له سبل الحصول على لقمة العيش. وسيفوز فوزاً باهراً، خاصة عندما يقدم وعده هذا وقد زخرفه بنبرات عنصرية الفحوى». وهو في هذا القول محق تماماً، فالنزعة الى تأسيس النظم الاستبدادية تنتشر كرد فعل على تطبيق الزائد عن الحاجة لليبرالية المحدثة في ارجاء المعمورة، وما سببته من فزع من اللامساواة التي احدثتها الرأسمالية القاتلة، التي دمرت التماسك الاجتماعي وطحنت الغالبية العظمى من السكان. وهذا الانطباع يتجلى بتصاعد اسهم السياسيين اصحاب النزعات العنصرية والدعوات المعادية للاجانب، في البلدان التي تمثل منبت الديمقراطية الحديثة.. فما بالنا بالدول الاخرى؟ ان الشيء المؤكد هو ان العولمة تسير بتضاد مع الامركة، وان الافرقة صارت المرادف لها. وهي بما تثيره من تداعيات صارت تصيب بعدواها الدول الغربية نفسها وبشكل اكثر بشاعة مما هو عليه الحال في افريقيا. والنماذج عديدة: انتشار تجارة الرقيق الابيض والدعارة والاستغلال الجنسي للاطفال والنساء ظاهرة بارزة في الغرب. التطهير العرقي اضحت معالمه الاولى بارزة منذ الان في بعض الولايات الاميركية والمدن الاوربية ونطاقه سيتسع في السنوات القادمة. عنف السلطة والحد من الحريات الفردية ليس مرتبطا، في جوهره، بهجمات سبتمبر الماضي بما في ذلك توسيع صلاحيات الحكومة المركزية في اميركا واجهزتها الامنية، وانما هو تطور لمسيرة تحولات سابقة. عنف شهدناه قبل احداث سبتمبر. ويكفي المقارنة ما بين مواجهة السلطات الديمقراطية للاحتجاجات في سياتل مع حدث في جنوى ليدرك المرء كيف ان عنف السلطة كان آخذا بالتنامي حتى قبل الهجمات الارهابية على اميركا. وبالتأكيد فان الهجمات عمقت من هذه التحولات وعززت الاتجاه نحو اقامة الامبراطورية وتتويج الرئيس الاميركي فيها قيصرا.

* كاتب وصحافي عراقي ـ بغداد