استمرار الظاهرة الاستعمارية

TT

الواقع ان الأوضاع لم تتغير كثيرا في السياسة الدولية عما كانت عليه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، فالظاهرة الاستعمارية ليست إلا استعمالا للقوة العسكرية والاقتصادية للسيطرة على موارد الآخرين وفتح أسواق جديدة. وتلونت هذه الظاهرة بألوان عديدة، فهناك الاحتلال الاستيطاني كما حدث في عدة دول، وهناك الاحتلال العسكري حيث توجد الجيوش فوق أراضي الدول المحتلة لإرغامها على تنفيذ سياسة الدولة المحتلة، وهناك الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تستعمل فيها القوة العسكرية كعنصر تهديد. وكل هذه الأشكال ما زالت قائمة كالاحتلال الاستيطاني الذي نشأت عنه الدولة الاسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة للأشكال الأخرى حيث تتوزع القوى الاستعمارية في قواعد عسكرية متعددة كما نرى في القواعد الاميركية التي تكاد تشمل كل القارات تقريبا، ثم أخيرا الهيمنة السياسية التي نرى ممارساتها كل يوم في هذا البلد أو ذاك.

ومن الواضح ان الأسس التي بنيت عليها الظاهرة الاستعمارية لم تزل كما هي بحيث لم يكد يتغير شيء فيها، فالقوة ـ بأبعادها المختلفة ـ هي وسيلة الهيمنة، وهي التي ترسم سياسة دولية تفرض فرضا على الدول موضع الاستعمار. وعند ادراكنا لهذه الحقيقة نلاحظ ان الاشكال «الديمقراطية» في المجتمع الدولي لم تتطور الى محتوى ديمقراطي حقيقي، من ذلك مثلا الأمم المتحدة ومنظماتها. فالعالم اليوم يسلم بأن الارادة الاميركية هي مصدر الفعل وأساسه في السياسات القائمة، وخروج الولايات المتحدة من دائرة المنظمة الدولية وتجاهلها لقراراتها، بل تعمد مخالفتها، دعك من حق الفيتو الذي أصبح شكليا هو الآخر منذ افتقاد المنظمة للقدرة على تنفيذ قراراتها، كل هذا يحول «الأشكال الديمقراطية» الى مجرد أطر خالية من المضمون.

من هنا يبدو ان «حركات التحرر الوطني» القديمة لم تزل هي الاسلوب المناسب لمقاومة الظاهرة الاستعمارية. وبالتالي فان استراتيجيات الدول موضع الاحتلال سوف تبنى على فكرة التحرر الوطني. واذا كانت الظاهرة الاستعمارية القديمة قد شملت عدة دول مثل بريطانيا منذ بدايات القرن التاسع عشر، ومثل فرنسا وهولندا وغيرهما، فالظاهرة حاليا تكاد تنهي التنافس والصراع بين الدول الاستعمارية، حيث تنفرد قوة واحدة ووحيدة بالهيمنة، وهي القوة الاميركية، وصار كل ما يمكن ان تتنازل عنه هذه القوة هو شيء من المشاركة مع الدول الأخرى التي كانت تشكل القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. ولأسباب عديدة صار من الصعب ظهور شيء من التنافس، فالاتحاد الأوروبي عاجز عن التنافس، وبالتالي مضطر الى ان يبتلع قرارات أو تصرفات اميركية قد لا تكون في صالحه، حتى مع تجاوزها للشكل القانوني المتعارف عليه. وصرنا نرى انسحاب الولايات المتحدة من العديد من الاتفاقات الدولية، بل رأينا قرارات حمائية جمركية ضد المنتوجات الاوروبية، منها سلع مهمة كالحديد والصلب، دعك من الممارسات الأخرى التي تلوي فيها الأذرع الأوروبية سواء في الاقتصاد أو السياسة بل الحملات العسكرية. وربما كانت ظاهرة العولمة التي تكاد الولايات المتحدة تسيطر عليها سيطرة كاملة هي مسؤولة عن تركز الظاهرة الاستعمارية الجديدة في أيدي الولايات المتحدة، التي تتربع على قمة الانشطة التي يتيحها اتجاه العولمة الناتج عن ثورة الاتصالات وكسر الحدود وانتشار الشركات المتجاوزة للقوميات، والتي يشكل رأس المال الاميركي فيها القلب وحجر الأساس. والولايات المتحدة من ناحيتها تعمل على بتر أي قوى تفكر في منافستها، وما زالت السياسة الاميركية تعمل على انهاء القوة الروسية المتخلفة عن الاتحاد السوفياتي السابق، وكان أهم قرارات اجتماع الدول الثماني الكبرى الأخير هو تصفية الترسانة النووية في روسيا الاتحادية في مقابل عشرين مليار دولار تمنح لها. وتعي الولايات المتحدة ان «القوة» هي أساس الشرعية، وان السياسة الصحيحة لا تثق في أي عنصر آخر كالصداقة أو وحدة الثقافة أو التحالف، ولذلك قفزت ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة الى ما يوازي ميزانيات الدفاع لحوالي خمس عشرة دولة أوروبية. ولا شك ان الرسالة المستنتجة من هذه الزيادة الهائلة في ميزانية «الدفاع» الاميركية قد وصلت الى الجميع، وهي القدرة الخارقة على مواجهة كل التحديات حتى لو جاءت ـ فرضا ـ من معسكر الحلفاء.

من هذه الزاوية تتضح أمور كثيرة، مثل السياسة الاميركية في افغانستان وفي شبه القارة الهندية وصراع الحدود بين الهند والباكستان، ومثل مشاكل الصراعات في دول الاتحاد اليوغسلافي السابق، وبصفة خاصة بالنسبة للشرق الاوسط حيث اصبحت الولايات المتحدة وشركاتها مهيمنة تماما على الموارد البترولية التي تشكل نسبة عالية جدا من استهلاك العالم للبترول. ومنذ صعود الولايات المتحدة الى القمة السياسية كان لديها ادراك بأن السيطرة على مصادر الطاقة ـ البترول في مقدمتها ـ وعلى انتاج القمح، ثم على انتاج السلاح، هي الوسيلة للتحكم في شؤون العالم شرقه وغربه وجنوبه وشماله. والدولة الاسرائيلية في الشرق الاوسط -المتناقضة بطبيعة قيامها ـ على أسس غير شرعية مع مصالح الدول العربية، من شأنها جعل هذه المنطقة تحت رحمة التدخل الاميركي الذي سوف ينشده ويتطلع إليه الجميع، وقصة قيام الدولة الاسرائيلية تكشف عن دورها في المنطقة، أما المذابح الدموية التي تقوم بها السلطات العسكرية الاسرائيلية، بما لم يسبق له مثيل في أي نزاع في الخمسين سنة الماضية فتدل على انه أمر مقصود يصل الى درجة القمع الحاسم وإسكات أي صوت معارض.

وبالفعل أبعدت كل القوى عن التدخل لوقف هذه المذابح غير المسبوقة. أبعدت الأمم المتحدة، ثم حيل دون التدخل الاوروبي، مع ان في الكثير من المناطق الساخنة كان للمنظمة الدولية دور ما، أو على الأقل استخدمت كإطار شرعي. أما في فلسطين فلم تتمكن أي قوة دولية من أن تلعب أي دور، وانفردت الولايات المتحدة ـ بشكل سافر وعلني ـ بالتحكم في مصير الشعب الفلسطيني، وفي مصير الشعوب العربية أيضا. حيث تبلغ العدوانات الاسرائيلية على الفلسطينيين رسالة واضحة لشعوب المنطقة بأنه لا قبل لأي قوة في المنطقة أن تمنع اسرائيل من التدخل القامع لأي معارضة لسياستها المدعومة من القوة الاميركية.

فهل أغلقت الدائرة على العالم العربي، ولم يصبح هناك فكاك من هذه القيود؟

الواقع ان الاوضاع في العالم لم تتغير كثيرا، وان حركة التحرر الوطني لم تزل قائمة، وان الظاهرة الاستعمارية تتجلى في قوة قاهرة أمام قوة ضعيفة ومحدودة، وهو الأمر الذي أصبح متوافرا في المنطقة. وكان الاستعمار القديم قائما على شرعية «القوة» حيث تغزو الدولة الكبرى الدولة الضعيفة وتحتل اراضيها ثم تفرض عليها شروطها، وهنا لا يصبح أمام الدولة المهزومة إلا الاستسلام أو المقاومة الشعبية، وغالبا ما تنشأ حركة «تعقل» بين «حكماء» هذه الشعوب تحاول التعايش مع هذه القوة الجديدة وتجد الكثير من المبررات لهذا التعايش. وفي عهد الاستعمار القديم كان التهديد بالقوة العسكرية هو الاسلوب الذي تلجأ إليه الدولة الغازية أو المستعمرة.

وطوال الظاهرة الاستعمارية كانت الدولة الكبرى تعمد الى نزع السلاح أو تهجين القوة العسكرية، ومنذ الاحتلال البريطاني في مصر سنة 1882 كان كل شيء في الجيش المصري يأتي من ترسانات الجيش البريطاني، بل كان التعليم العسكري يأتي منهم أيضا. وحين ننظر الآن الى وضع الكثير من الجيوش العربية نرى انه لم يختلف عما كان عليه في ظل الاستعمار القديم، وقد باءت كل محاولات التطوير للسلاح بالفشل بسبب سياسة استراتيجية قديمة تضع قيودا على السلاح في دول المنطقة.

وفي وقت من الأوقات رحنا نتحدث عن انتهاء الظاهرة الاستعمارية، وانها تنتمي الى عصر انتهى، ولم نتنبه ـ في الواقع ـ الى ان الظاهرة ما زالت قائمة وربما في صورتها الكاملة التي جمعت بين الاستيطان والاحتلال العسكري والهيمنة السياسية والاقتصادية. وكان التلويح بالحرب والتهديد بها، هو احدى وسائل القمع وفرض السياسات. ولأن الدول المستعمرة كانت واقعة بالفعل تحت السيطرة الكاملة وخاصة في السلاح، كان من المستحيل المغامرة بحرب من الواضح تماما انها خاسرة. وهذا الأمر ما زال قائما، ليس بسبب التفوق العسكري الاسرائيلي فقط، بل بسبب الدعم الاميركي المتصل، وقد رأينا في حرب اكتوبر سنة 1973 ان الرئيس الأسبق رتيشارد نيكسون راح يرسل الدبابات عن طريق جسر جوي الى سيناء للجيش الاسرائيلي الذي كان قد فقد الكثير من دباباته. لم يكن صديقا خالصا للاسرائيليين، وهو لم يكتف بذلك، بل هدد باعلان الحرب الذرية.

ولهذا فنداء الحرب بالنسبة للدول العربية اصبح نوعا من الحماقة أشبه بالشعارات البراقة التي استعملت كثيرا في الفترات السابقة. ومهما يكن في هذه الصورة من ضعف فان الخبرة القديمة لم تزل ذات فعالية، وقد استطاعت الثورة الشعبية في سنة 1919 أن تتقدم بمصر خطوة نحو الاستقلال، وهكذا حدث في الهند تحت قيادة بطل التحرير الموضوعي المهاتما غاندي، وحدث نفس الشيء بلغة أخرى في فيتنام التي خاضت عدة حروب ضد الاحتلال الفرنسي ثم ضد الولايات المتحدة، وهي ليست حروب جيوش، بل حروب مقاومة، والتي سميت في وقت من الاوقات بحرب العصابات.

واذا كنا بالفعل في حالة استعمار، فان المقاومة تصبح أسلوبا فعالا الى جانب الصراع السياسي بكل أشكاله المختلفة، والقول بأن لهذا الصراع الأخير دوره الفاعل ليس عجزا للتهرب من المواجهة، بل هو حقيقة لأن مواجهة الظاهرة الاستعمارية الجديدة جذبت إليها الكثير من القوى الاجتماعية حتى داخل الاحزاب الحاكمة في اوروبا، وداخل تيارات السلام في الولايات المتحدة ذاتها.

لقد احتاجت الظاهرة الاستعمارية القديمة الى حوالي قرن من الكفاح بصوره المختلفة قبل أن تنتهي، وليس من المستبعد ان تحتاج الظاهرة الجديدة الى زمن آخر، ليس بالضرورة يطول الى نفس هذا الزمن في عصر تتحرك فيه معدلات التغيير بمعدلات بالغة السرعة.

واستراتيجية التحرير تقتضي اسلوبا آخر، ولها ـ على أية حال ـ آلياتها، وهو الأمر الذي نراه واضحا في انتفاضة الشعب الفلسطيني وتحولاتها المختلفة. ومهما تكن عناصر الإحباط التي تحيط بنا، فان نزوع الحرية الكامن في أعماق الشعوب العربية له مؤشرات عديدة من الصعب تجاهلها أو الاستهتار بها.

حقا كنا نحلم بشيء من السلام والطمأنينة، بعد قرن كامل من الآلام والتحديات والانتكاسات والانتصارات الصعبة، ولكن العدل لم يتحقق، وليس موجودا في الساحة بوضعها الحالي، إلا وعود بالقهر والإذلال.