المغرب العربي الصغير!

TT

في زمن الحالات المنقوصة، والأطوار المشتبه في ملابسات حدوثها، تصبح الخيبة، كحالة ورد من ردود الفعل الفردية، أو الجماعية أو المجتمعية، ملاذا يفر إليه صاحب الخيبة والمتظاهر بها، بحيث يتم استدعاء جلالة «الخيبة» لتلعب دورا ليس من مشمولاتها، وفي سياق يخلو تماما من شروط تبلورها، تلك الشروط المتمثلة، بالخصوص في اللا متوقع، أي أنه كي تتحقق الخيبة لأي طرف، لا بد من أن يكون ما حصل بعيدا عن دائرتي المنتظر والمتوقع فتتوفر للخيبة شروط حصولها. ولكن في جملة ما نقترفه من انحرافات، في المعاني وفي المفاهيم وفي الأفعال أصبحنا لا نمانع البتة، في التعبير عن خيبتنا في أمور أكثر من متوقعة، تماما كأمر تأجيل القمة المغاربية، التي كان من المنتظر ومن المتوقع أن تنعقد يومي 21 و22 جوان (يونيو) الماضي.

وربما هذا التواطؤ اللغوي والنفسي والسياسي، وإجماع مختلف التعليقات على حالة الخيبة على إثر إعلان خبر التأجيل، يدلان على أن النفسية الاجتماعية المغاربية خاصة والعربية عموما من فرط قفزها المرتبك بين المتوقع واللا متوقع، أصبحت تخلط بين المسميات، بالاضافة إلى أن حالة الخلط، التي يديرها اللا وعي الاجتماعي، تحولت إلى طاقة، تحرك ما هو ساكن حتى لو كان ذلك على حساب منطق المفاهيم، فيتم استدعاء الخيبة في لحظة اللا خيبة، ويصبح ما هو متوقع أمرا مفاجئا. إن مفاد هذه «الديباجة» هو أن الحديث عن الخيبة لا يستقيم، بالاضافة إلى أنه حتى ولو تم انعقاد القمة، فنحن لا نعرف، إلى أي حد سيكون انعقادها مجديا، وفرصة للإيفاء بالالتزامات المتفق حولها والممضى عليها.

سنتجاوز «سوء الظن» بحقيقة عزم القادة المغاربيين السابقين والراهنين على إنشاء وحدة مغاربية تنهض بالمنطقة وترتب إمكانياتها بشكل يجعل المغرب العربي كبيرا ومكتفيا بشمال افريقيا وبما يملكه من موارد وأسباب العيش السعيدة، سنتجاوز هذا الظن السيئ، ونصدق بالتمام وبالكمال، بأن قضية الصحراء الغربية، تعرقل مشروع الوحدة المغاربية.

طبعا لا شك في أن ملف الصحراء الغربية ملف شائك، أدى إلى تأجيج التوتر الحاصل بين المغرب والجزائر، إلا أنه إلى جانب ذلك فإن قضية الصحراء الغربية، تقوم بدور مزدوج، يتراوح بين الحجة المقنعة وبين الحجة الواهية، إلى درجة أنه لا نبالغ إذا قلنا انه لو لم تكن قضية الصحراء الغربية موجودة وقائمة لاخترع القادة المغاربة قضية أخرى تضاهيها في التعقد وفي طول العمر وتلعب دور «المعرقل» الحقيقي والوهمي في نفس الوقت، مع العلم أن كتابات مغاربية غزيرة أسالت حبرها لتوضح ما هو حقيقي وما هو مقنع في ملف الصحراء الغربية المتنازع عليها والذي اصطبغ مع مرور الأيام والسنين بلون العناد والمزايدة في العناد، دونما وعي بالخسائر التي ستتكبدها الشعوب المغاربية، من وراء هذا العناد المتورم، خاصة فيما يتعلق بالموقف الجزائري، الذي انخرط في لعبة العناد واستحال عليه الرجوع، وألزم نفسه بالسير قدما في هذه اللعبة، إلى درجة أن الرئيس الجزائري حضر احتفال جبهة البوليساريو بذكرى اندلاع ثورتها، مع كل ما يحمله هذا الحضور من استفزاز للجار المغربي، الذي جعل من قضية الصحراء الغربية قضية أخلاقية وجيوسياسية، أي أنها قضية حياة أو موت لصورة المغرب الأقصى، ولوزنه الداخلي والمغاربي والعربي والافريقي والمتوسطي.

ولكن مع كل هذه المعطيات الواقعية، فإن قضية الصحراء الغربية إلى جانب أنها حاجز أمام تجسد الوحدة المغاربية، فإنها أيضا حاجز وهمي وتراب يذر على العيون المغاربية، لإخفاء الحواجز الحقيقية، وهي حواجز متنوعة مختلفة الأبعاد. وبالنظر إليها يمكننا أن نفهم لماذا مشروع الوحدة المغاربية بقي مقولة شفوية مؤجلة. مع العلم أن المغرب العربي نفسه كمقولة، شهدت عمليات كثيرة من التمطيط، مما جعلها مقولة تتمطط حسب الظروف التاريخية ووقائع الأحداث.

في الحقيقة إن أول الحواجز الواقفة ضد قيام الوحدة المغاربية، هو الحاجز المتعلق بمحددات غير معينة بدورها وتتمثل في المزاجية والعناد والمناورات التي تتحكم في السلوك السياسي لأغلب قادة المنطقة، ومثل هذه المحددات تتناقض مع ما يقتضيه مشروع الوحدة من رصانة وتفهم وتنازلات من أجل الصالح العام للمنطقة المغاربية.

وبالاضافة إلى هذا الحاجز، فإن انخراط مختلف بلدان المغرب العربي في نموذج الدولة القومية على غرار النموذج الأوروبي، ضعف أي إرادة لها علاقة بالتكتل وبالوحدة، فأصبحت مختلف البلدان منشغلة ومهوسة بمشاريع «التونسة» و«الجزأرة» و«المغربة» وهي مشاريع محددة الجغرافيا والمصلحة والطموحات. ومثل هذا الانخراط الذي انطلق على إثر نيل الاستقلال مباشرة أي في فترة الخمسينات يعد من حيث العمر قصيرا، وما زال يحتاج إلى زمن ليحقق بدوره الأهداف المرسومة له، لذلك صعب عمليا الاندفاع في مشروع الوحدة المغاربية، والحال أن الدول المغاربية ما زالت تخضع لفلسفة الدولة القومية الضيقة.

من جهة أخرى، وهي الجهة الهامة والحساسة والمسكوت عنها والمتمثلة أساسا في الملف الإسلامي، الذي يختلف من بلد إلى آخر في المغرب العربي، وذلك من حيث قوة الطرح ومن حيث أسلوب المعالجة وطريقة التعامل، وهو ملف لا يستهان به، خاصة في العشرية الأخيرة وفي هذه الآونة أيضا، ومن الصعب أن تتجاوز بعض بلدان المغرب العربي الخوف من تصدير التجربة الجزائرية أو أن يمتد الحضور القومي للتيار الإسلامي إلى الأقطار المجاورة، لذلك فإن تأجيل الوحدة يصبح في حد ذاته معالجة سياسية مؤقتة أو طويلة المدى لملف الإسلام السياسي في المغرب العربي. إلى جانب ملفات أخرى أقل قيمة من الملف الإسلامي والمتمثلة في ملف الحريات سواء السياسية أو الإعلامية أو فيما يتعلق بوضع المرأة من ذلك، مثلا أن هامش الحرية الإعلامية ليس هو نفسه في مختلف الأقطار المغاربية بالاضافة إلى أن قانون منع تعدد الزوجات لا يوجد إلا في تونس.

كل هذه الحواجز تنضاف إلى ثقل المشاكل الداخلية لكل بلد مغاربي، وهي مشاكل تعرقل أي التفاتة حقيقية وعملية لمشروع الوحدة المغاربية بل أنه ربما مثل هذه الالتفاتة في صورة حصولها تصبح بمثابة اضاعة للوقت وللجهد، خاصة أن هذه المشاكل لا يخلو منها أي بلد مغاربي فالجزائر مثلا تعاني من مشاكل الإسكان والبطالة ويصل عدد العاطلين إلى اربعة ملايين ويعيش 18 مليون جزائري تحت خط الفقر، بالاضافة إلى أن المغرب ايضا يعاني قرابة 70% من سكانه من الفقر والخصاصة.

إن كل هذه الملفات المشار إليها، لا شك في ثقل وزنها وقدرتها على إجهاض كل المشاريع سواء المتعلقة بالدولة الوطنية أو الوحدة المغاربية ولكن ربما ما يزيد في هالة هذه الملفات هو كيفية تعامل النخب السياسية معها، إذ أن هذه الملفات ينظر إليها من خلال رؤية ضيقة تستجيب لحدود الدولة الوطنية نفسها، في حين أن الاستناد إلى رؤية مغاربية في معالجة هذه الملفات ستخفف من حدتها، وبالتالي يمكن التقليص من جبروتها وتحكمها في مستقبل المنطقة، خاصة لو تم تطليق العناد الذي لا يثمر أي مصلحة ضيقة كانت أو واسعة.

لذلك، فإن التلذذ بتأجيل الوحدة المغاربية واستسهال مفعولها، سيجعلان المنطقة المغاربية في أيامها القادمة تدرك أن ذلك التلذذ والاستسهال يخفيان مرارة ومآزق لا أحد يعلم حجم آثارها، خاصة أن هذه المنطقة مهددة بالبلقنة بسبب العامل الإثني الذي بدأ يعتمل ويحقق شيئا من المكاسب شجعت كل الظروف الآنية على تراكمها. وهنا نتذكر جيدا قول المستشرق الاجتماعي جاك بارك الذي قال ان قضية البربر في المغرب العربي هي بمثابة قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة تاريخية. وإذا كان الأمازيغ، في منطقة القبائل الجزائرية قد تمكنوا بعد ضغوط على السلطة من ان يجعلوا من لغتهم لغة وطنية، فإنهم عازمون على مواصلة النضال لجعلها رسمية أيضا. ومثل هذه النجاحات ستشجع بربر المغرب الذين يمثلون قرابة ثلاثة ارباع السكان على استنهاض «الهمم النائمة». وحتى البلدان المغاربية الأخرى التي اعتقدت أن الملف البربري أغلق إلى الأبد فإن ظروف عودته ستصبح قائمة الذات، وسنكتشف جميعا أن الرماد قد أخفى عنا جمرا ستحترق به المنطقة شر احتراق.

إن الواقع المغاربي الحالي وبمختلف أبعاده ومستوياته سيقودنا إلى مستقبلين لا ثالث لهما: إما أن يتحقق المغرب العربي الكبير مقولة وواقعا، وإما أن نعلن صراحة لأنفسنا ولمن يهمهم أمرنا أننا من المغرب (...) الصغير!

* كاتبة وشاعرة تونسية