العليان ودرس الثقة

TT

في مطلع الثمانينات كنا في الحفل السنوي للبنك الدولي في واشنطن، اتجهت نحوه مباشرة، حيث احاط به عدد من رجال الاعمال والمصارف. عرفته بنفسي وهنأته على الحديث المميز الذي ظهر به ذلك الاسبوع في صحيفة «نيويورك تايمز»، وبهذه المناسبة قلت له، شيخ سليمان انا مراسل صغير لصحيفة محلية قد لا تهمك، لكن يهمنا ان نحاورك ايضا. طالعني وابتسم ثم قال لي بالانجليزية: يا بني لا تبع نفسك قصيرا ابدا، فانت شخص مهم وصحيفتك مهمة ايضا، أي كن واثقا من نفسك. وبالفعل كان في انتظاري صباح اليوم التالي في احد فنادق العاصمة شبه المجهولة. كان ذلك المعلم الحكيم هو الشيخ سليمان العليان الذي فقدناه مساء الخميس الماضي.

الحقيقة انه اهداني درسا مهما لا يزال في ذاكرتي، ومن رجل هو نفسه كان في يوم مضى صغيرا، عمل سائق شاحنة ثم اصبح بعصاميته وثقته بنفسه من اهم رجال الاعمال ليس في ثروته بل اهم من ذلك، في رقي تفكيره واسهاماته. ومع ان كثيرين تحدثوا عن ادوار سياسية لعبوها لصالح بلدانهم، فاننا لا نذكر ان العليان تفوه بكلمة واحدة لنا حتى عندما كنا نلح عليه بالسؤال، كان يعتبرها من خصوصياته وعلاقاته، وبطبعه كان ينأى بالحديث عن نفسه رغم اهميته في الوسط الاقتصادي. اتذكره واحدا من اهم الذين غيروا تاريخ تصويت الكونغرس تجاه صفقة طائرات «الاواكس» في مطلع الثمانينات عندما طار الى سياتل في شمال غربي الولايات المتحدة حيث كان هناك قائد حملة المعارضة للصفقة التي كانت مهددة بالفشل بسبب معارضة اصدقاء اسرائيل لها. وبعدها بيوم واحد علمنا ان قائد المعارضة قرر الا يؤيد الصفقة والا يعارضها ايضا لينطفئ واحد من إشكالاتها.

العليان من فئة رجال الاعمال الذين صنعوا مالهم من الصفر في بلد، كثيرٌ من تجاره ولدوا في المضاربات العقارية سريعة الربح. ومن سخرية الدنيا ان اكثرنا يوصف باثرياء النفط، في حين ان اغلب الموصوفين لم تكن لهم حرفيا علاقة مباشرة بالنفط الا قلة قليلة مثل العليان، فهو بدأ شابا صغيرا في حضن شركة «ارامكو» البترولية وعمل بها عاملا وسائق شاحنة ومحاسبا ومترجما وتاجرا صغيرا ثم تاجرا كبيرا، فهو نموذج اثرياء النفط، واليوم نقول ليت اكثرهم مروا من نفس البوابة التي صقلته ودربته وهيأته لمصارعة الحياة المعقدة في الساحة الدولية.

حياة رجل مثل العليان مهمة لانها جزء من رواية تاريخ مهم في منطقتنا لبلد لا يزال يحير كثيرين بوجوده واستمراريته. ولا شك ان الفترة التي يرميها البعض بالحجارة افرزت بحريتها الاقتصادية وعلاقاتها الدولية الذكية مجتمعا نشيطا وعمليا ومخلصا اكثر مما افرزه مجتمع المعلومات اليوم الذي نقول انه المثالي والافضل. لهذا نودع رمزا قديما بوداعنا للشيخ العليان ـ رحمه الله ـ الذي رغم صمته ظل صوته مرشدا يرن في اذني وآذان كثيرين ممن عرفوه كل هذه السنين.