الإعلام العربي في عصر المعلومة

TT

«العالم من حولنا»، يقول أكاديمي في الإعلام، «خريطة إعلامية أكثر من كونها جغرافية أو تاريخية.. بل ان الإعلام أصبح بطل الملحمة واللاعب الأساسي في صياغة الترتيبات العالمية على ضوء انعكاسات الحادي عشر من سبتمبر.. وبالتالي فإن المتحكمين في الإعلام، هندسة وتمويلاً وصياغة، هم الأكثر قدرة على صوغ خريطة العالم ورسمها في هذا الزمن وفقاً لمرئياتهم وأغراضهم ومصالحهم الخاصة «(الدكتور عبد العزيز المقوشي، مقابلة في جريدة عكاظ السعودية، الأول من تموز/يوليو، 2002). بل وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى قبل تسارع ظاهرة العولمة المعاصرة بوقت طويل، كان دور الإعلام رئيسياً في تشكيل العقل والسلوك البشري. وفي ذلك يقول عالم الاجتماع الأميركي س. رايت ميلز في واحد من أشهر كتبه: «إن جانباً يسيراً فقط مما نعرفه من حقائق اجتماعية عن العالم، توصلنا إليه بأنفسنا، وبطريق مباشر، بينما معظم التصورات والأخيلة التي في أدمغتنا عن العالم، وصلت إلينا عن طريق وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، لدرجة أننا في غالب الأحيان لا نصدق ما يجري أمامنا حتى نقرأ عنه في الصحيفة، أو نسمع عنه في الراديو. فوسائل الإعلام لا تعطينا المعلومات فقط، ولكنها توجه خبراتنا المباشرة «The Power Elite Oxford University Press P.311».

كتب ميلز هذه الكلمات عام 1956، أي قبل انفجار ثورة المعلومات والاتصالات المعاصرة بفترة طويلة، تلك الثورة التي غيرت من فكر وسلوك الإنسان في كل مكان بما يشبه التغير الجذري، لدرجة أنه يمكن إطلاق اسم الثورة البشرية الثالثة عليها، وذلك بعد الثورتين الزراعية والصناعية. تبين لنا ملاحظة ميلز هذه الأهمية القصوى التي تحتلها وسائل الإعلام، أو «الماس ميديا» في تشكيل عقل وسلوك الفرد والجماعة في عالم اليوم، وخاصة في هذه الفترة من تاريخ البشرية، حيث أصبحت وسائل الإعلام هي الرفيقة حتى في غرف النوم المغلقة، بحيث يمكن القول ان إنسان هذا العصر أصبح كائناً إعلامياً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. هذا الدور المحوري للإعلام ووسائله، يبدو أكثر أهمية في المنطقة العربية بالذات، بل لنقل في العالم الثالث عموماً، حيث التحولات الاجتماعية على أشدها، بما يتضمنه ذلك من اهتزاز في العلاقات الاجتماعية والسلوكيات والأفكار والقيم، وإعادة تشكلها وتشكيلها. قيم قديمة تختفي، أو هي في طور الاختفاء، وقيم جديدة تحاول أن تجد لها موقعاً على الخريطة الاجتماعية والثقافية، وبين هذه وتلك، يقف الفرد والجماعة عاجزين عن تلمس الطريق، حيث تتلاشى المعايير الاجتماعية «الثابتة»، أو ما كانت ثابتة، للصح والخطأ، نتيجة هذا التداخل بين القديم والحديث، كما يتداخل الليل والنهار ساعة الغسق أو ساعة السحر.

قد تكون مثل هذه المشكلة عامة بالنسبة لأي مجتمع، وكل مجتمع يمر في حالة من التحول والتغير، ولكنه بالنسبة للمنطقة العربية بصفة عامة، أشد أثراً وأقوى تأثيراً. فالقديم وبنيته، الاجتماعية والثقافية، يبقى بالنسبة للمنطقة العربية قدساً من الأقداس. بل انه في كثير من الأحيان يشكل أساس الشرعية للثقافة السائدة، والسلطة السياسية المهيمنة، والعلاقات الاجتماعية المسيطرة، مما يجعل من عملية التحول والتغير في هذه المجتمعات أكثر توتراً. ومن ناحية أخرى، فإن هنالك قيماً جديدة احتلت موقعها على الخريطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، في ذات الوقت الذي يُنظر فيه إلى قيم قديمة بقداسة كبيرة، رغم أنها لم تعد موجودة على خريطة الواقع الاجتماعي، ومن هنا تنشأ «خصوصية» الحالة العربية، إن صح التعبير. والنتيجة المباشرة لمثل هذه الإشكالية، ظهور نوع من القيم والسلوك هو عبارة عن محاولة «عملية» للجمع بين متناقضات ليس من الضروري أن يكون اجتماعها متماسكاً. والمهم في هذه المسألة، هو أن وسائل الإعلام، أو لنقل المؤسسة الإعلامية في المنطقة، لم تقم بدور فعال من أجل المساعدة في تلمس أبعاد الطريق الجديد، مما جعل الفرد والجماعة يفقدان التوجيه السليم، أي التوجيه القائم على معرفة متغيرات الوضع في الداخل والخارج، حيث اكتفت هذه المؤسسة بوظيفتها التقليدية التي تجاوزها العصر، وبذلك نعني البروباغندا المباشرة، والتبشير بقيم لم تعد موجودة، ولكنها ترسخها في الذهن رغم عدم وجودها.

فمن الملاحظ أن هذا الإعلام وأجهزته، مفصول العرى تقريباً عن مجرى التغيير والتحول، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، وبالتالي فإنه عاجز إلى حد بعيد عن التعبير عن طبيعة الحركة في هذا العالم، وبالتالي التحكم في مسارها واتجاهها. ولعل ذلك راجع إلى عدة أمور، منها الفني البحت، ومنها ما هو سياسي واجتماعي وثقافي. فمن الناحية الفنية البحتة، يمكن القول بشكل عام ان العاملين في قطاع الإعلام في المنطقة، وخاصة الرسمي منه وشبه الرسمي، ليسوا من المتخصصين في العملية الإعلامية أو المجالات الاجتماعية والثقافية الأخرى ذات العلاقة. فرغم أن العملية الإعلامية تعتبر في عصرنا أخطر عملية، من حيث تشكيلها للفكر والسلوك، إلا أن القائمين عليها والعاملين فيها هم في جلهم ممن لا يعون هذه الحقيقة، بل وغير مؤهلين لمثل هذه العملية الخطيرة، أي تشكيل العقل والسلوك بما يتواءم مع حركة المجتمع والعالم، ومن ثم التحكم في مسارها قدر المستطاع. وكما يقول أحد المهتمين بالشأن الإعلامي، فإن الإعلام اليوم: «من الصناعات الثقيلة، ويحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة. والوصول إلى وسائل إعلام تؤدي دورها على النحو الأفضل، يتطلب إجراء معالجات منها: إيجاد رؤوس أموال تقدر الدور التربوي والتنويري، ولا يكون همها العائد المادي فقط. أن يتولى العمل أهل الخبرة والاختصاص بدل أن تكون الصحافة مثلاً، مهنة من لا مهنة له (المقوشي).

ومن ناحية أخرى، فإن من المعلوم أن وسائل الإعلام في المنطقة مملوكة في مجملها من قبل الدولة، وإن لم تكن كذلك، فإنها خاضعة للسيطرة المباشرة أو غير المباشرة لهذه الدولة أو تلك، مما يمكن معه القول إنه لا وجود لإعلام مستقل فعال في المنطقة العربية. بمعنى آخر، فإن الإعلام العربي بصفة عامة هو إعلام «مؤدلج» إلى حد كبير، سواء كان مملوكاً من قبل الدولة، أو خاضعا لسيطرتها، أو حتى عندما يكون مستقلاً ظاهراً، وذلك كما هو الحال في المشروعات الإعلامية الخاصة. كون الإعلام ووسائله بهذه الصفة، بالإضافة إلى عدم «مهنية «القائمين عليه، جعل منه اتصالاً من نقطة واحدة، وباتجاه واحد: من السلطة (صراحة أو ضمناً) إلى المجتمع، دون أن يكون لهذا المجتمع دور كبير فيه.

ونستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول إن الإعلام في المنطقة، هو في مجمله عبارة عن نوع من الدعاية المباشرة والفجة للدولة، إن لم يكن مجرد إعلان عنها وعن منجزاتها الحقيقية والمفترضة، أو لنقل نوعاً من «البروباغندا» الساذجة، قياساً بالبروباغندا عندما تكون قائمة على أسس علمية ومدروسة. الدعاية جزء من الإعلام، لا شك في ذلك، ولكن الدعاية الفجة. كما يمارسها الإعلام العربي، هي استفزاز لمتلقي الرسالة الإعلامية، بدل أن تكون كسباً له وفق أهداف الرسالة. فمثلاً عندما تقوم وسائل الإعلام، بمناسبة ودون مناسبة، بالتذكير الدائم بإنجازات الدولة وخدماتها، فإن ذلك له أثر سلبي في النهاية، من حيث إحساس المواطن مثلاً بأنه «ممنون عليه» من قبل هذه الدولة التي يجد نفسه في النهاية غير منتم إليها، وهذا جزء من الآثار السلبية لفشل الرسالة الإعلامية. مثل هذه الدعاية الفجة، أدت إلى انفصال الدولة عن المجتمع حقيقة، بدل أن تكون عوناً على اندماج الاثنين وتفاعلهما. وذات الشيء يمكن قوله من زاوية أخرى، حين الحديث عن الرسالة الإعلامية العربية إلى الخارج. فقد اعتادت هذه الرسالة على أن تكون هي نقطة الأصل، المركز الأوحد للإرسال ودون استقبال، وبذلك فإنها حين تخاطب «الآخر»، فإنها تخاطبه بلغة لا يفهمها، ولا يهمها أن تفهم رسالة هذا الآخر، فتتحول القضية إلى «حوار طرشان» له من الآثار السلبية على المنطقة ومجتمعاتها ونظمها ما له. وسبب كل ذلك هو عدم الفهم العميق لطبيعة الرسالة الإعلامية ودورها، وخاصة في زمن مثل زماننا هذا، حيث تلاشت الحدود، وتهافتت الآيديولوجيات المباشرة، ولكن العرب يبقون أسرى الزمن، سواء ماضيه القديم أو الحديث، وبنية عقل يبدو أنه اعتاد الثبات والسكون.

بالإضافة إلى ذلك، فإن من الملاحظ أيضاً أن الإعلام العربي، وخاصة الرسمي وشبه الرسمي منه (وكل الإعلام العربي رسمي أو شبه رسمي)، ما زال يمارس «لعبة إخفاء الحقائق، غير آبه بأن الزمن غير الزمن، وأنه من الممكن اليوم الحصول على المعلومة، كاملة أو مشوهة أو مشكلة من جديد، من مصادر أخرى، في ظل ثورة الاتصالات التي نعيشها، مما يؤكد كون هذا الإعلام مجرد أجهزة بيروقراطية في النهاية، لا علاقة لها بالعملية الإعلامية كما يُفترض أن تكون. والمهم في هذا المجال، أي سياسة إخفاء المعلومة، هو أن لذلك نتائج سلبية في النهاية، قد تنعكس على ذات صاحب الرسالة. فمن ناحية، فإن هذه السياسة تعمق من أزمة الثقة بين المجتمع والدولة، وتزيد من سعة الفجوة بينهما، بحيث يصبح كل طرف سائراً في طريق مناقض للآخر، مع ما لذلك من مخاطر كارثية على الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن محاولة الوصول إلى المعلومة المحجوبة عن طريق مصادر أخرى، لها مخاطر أيضاً على حركة المجتمع، من حيث أن المعلومة، ورغم أنها معلومة، لا تأتي نقية صافية، ولكنها دائماً ما تكون مغلفة بالمرجع القيمي والثقافي والآيديولوجي لمصدرها أو مرسلها، وذلك بشكل غير محسوس وغير مباشر، على عكس الحال في الحالة العربية، مما قد يؤدي إلى انتشار معلومة «مشكلة من جديد»، قد تكون مخاطرها الاجتماعية والسياسية أكبر من تلك التي توهم الإعلام بأنه يتجنبها حين حجب المعلومة من البداية. الشفافية هي الحل الأنجع في هذه الحالة، وذلك بمثل ما أن الخط المستقيم هو الأقصر بين نقطتين.

كما أنه من الملاحظ أن الإعلام العربي ما يزال يمارس أسلوب الوصاية الفوقية على المجتمع، أي أسلوب أفعل ولا تفعل، ما يجوز وما لا يجوز، الصح والخطأ. مثل هذا الأسلوب، أي أسلوب الأمر الفوقي، هو عديم الجدوى في النهاية، بالنظر إلى الممارسة الإعلامية السليمة. فالفرد، وهو المتلقي الأخير للرسالة الإعلامية، لا يستسيغ مثل هذا الأسلوب، أي أسلوب الأمر والتوجيه المباشر، وكأنه من القاصرين. ويتفاقم فشل مثل هذا الأسلوب في ظل عالم أصبحت وسائل الإعلام والاتصال المختلفة تملأ اجواءه، وتصل إلى الناس في غرف نومهم، وفي ظل أزمة ثقة مزمنة بين المجتمع والدولة في هذه المنطقة من العالم. من ذلك كله نخرج بنتيجة مبدئية مفادها أن العملية الإعلامية في المنطقة لا تلعب الدور الفعال الذي من المفترض أن تلعبه، خاصة في مثل الظروف الحالية للعالم الذي أصبح بالفعل خريطة إعلامية، قبل أن يكون خريطة جغرافية أو تاريخية.