أخطاء في الحساب

TT

بدأت شركات العولمة تتهاوى بوسائل العولمة. فقد توسعت بسرعة الاتصال وانكشفت بأضواء الاعلام.

سلسلة من المتاعب معظمها يعود الى خطايا في الحسابات هزت كيان من كان نفوذهم لا يرد ودورهم في القرار يتعدى القوى الفاعلة في اكثر من بلد. سقوط اسماء مثل انرون للطاقة واندرسون للمحاسبة وولكولم للاتصالات وكيرش للاعلام وتاكيو وكلوبال كروسنغ للتكنولوجيا الحديثة هي العناوين البارزة لمرحلة لم تتضح معالمها بعد، وان كانت تشير الى انه حان وقت محاسبة المحاسبين.

هناك دائما نظريات المؤامرة حول من يحكم العالم تختلف باختلاف الموقع والزمان. فهي مرة سبع شركات بترول او تسع مؤسسات اعلامية او اربع استوديوهات سينمائية. ومرة اخرى اللجنة الثلاثية التي اسسها دافيد روكفلر وطلع منها الرئيس كارتر او مجموعة بلدنبرغ المجهولة او نادي الغولف الخاص جدا في بريدجهامبتون بولاية نيويورك. وكان الرئيس ايزنهاور قد اشار الى التجمع الصناعي العسكري، ويقترح البعض فريق الدول الصناعية الثماني الذي تحول الآن الى تسع بانضمام روسيا، ثم هناك من يهمس بأن عددا من المواقف السياسية الاخيرة تعود الى انكشاف اوراق شركة انرون واكتشاف خلل اداري في شركة هليبورتون للنفط.

انما هناك من يجزم بأن خمس شركات للمحاسبة هي التي تمسك بأهم الاوراق. يجوز لها في اروقة الدول ودهاليز المال ما لا يجوز لغيرها. هي المؤتمنة على الاسرار او الكاشفة للغطاء اذا اقتضى الامر.

في احدى روايات سعيد تقي الدين ان الرجل الابيض وصل الى الصقيع الشمالي فعبده اهالي الاسكيمو، الى ان تحرش بامرأة فادركوا انه انسان. والمحاسب دخل المجتمع من اثمن الابواب، باب الثقة، واكتسب المدقق الحسابي رهبة المحقق العدلي. الى ان طمح بعضهم الى المزيد، اي تدوير ارباح الناس بدلا من مجرد تعدادها.

الاسئلة لا تنحصر بالمحاسبة والمحاسبين، بل تتعداهم الى مفهوم خاص للنجاح يستسهل الوصول ويلح على المظاهر العامة دون الوقوف عند حد. في فيلم «وول ستريت» يعلن رئيس الشركة الذي يمثله مايكل دوغلاس: «الجشع ممتاز. الجشع حق. والجشع .. انتبهوا الى كلامي، هو الذي سينقذنا جميعا». تلك النظرة التي انطلقت في بداية التسعينات شملت الدول الكبيرة والصغيرة على السواء. معها تراجعت حضارة الجهد المثابر امام بريق الدخل السريع وتراجعت الخدمة العامة امام الفهلوة الخاصة. الطمع بدل الطموح. والشطارة بدل الذكاء. والبقاء للاسرع. معارف لا اصدقاء ورفقة طريق لا زملاء. المال السهل فتح الطريق وظروف المجتمع اطلقتها بلا عقبات او عواقب.

من السهل القاء اللوم على العولمة او التكنولوجيا او اقتصاد السوق. ولكنها مجرد وسائل ناجحة اذا احسن استخدامها جارحة في حالات الفشل، فالعنصر البشري هو الاساس. هناك شباب في الثلاثين ربحوا الملايين في فورة الانترنت وتصرفوا بحكمة وهناك كهول جهلوا بمدخول مماثل. وفي بعض الحالات انقلبت الآية فاصبح الابن الناجح هو الذي يجد العمل للأب إلا في بعض المناطق حيث الولد المدلل يبعثر اموال الوالد مع اموال غيره من المساهمين. وقد طالعت كتابا جديدا لشاب سويدي روى كيف استهلك اكثر من مائة مليون دولار خلال سنة في شركة ازياء الكترونية دون ان يسأل احد إلا عندما طلب المزيد. وبرزت مجموعة من النجوم الحالية التي لم تقنع بالنجاح في موقع واحد فحاولت الانتشار في كل اتجاه دون الحاجة الى مؤهلات اكثر من القدرة على اصدار التعليمات.

في الاساس كانت الامور اوضح، كان السياسي يمارس السياسة والتاجر يتعامل بالتجارة، المفكر يفكر ويبحث ويكتب او لا يكتب، حسب المزاج. الدكتور طبيب والمهندس مهندس والمحاسب محاسب. اما الاجتماعيات فكان لها نجومها حول المدينة بالطبع كان هناك احيانا رئيس حكومة يتمنى لو اشتهر كلاعب كورة، او آخر من بلد صديق كان يقضي الصيف في جبل لبنان ويوحي لزواره انه خبير في انواع الطائرات او اختصاصي في الطب الوقائي. غير ان هذه الطفرات الفردية بقيت في النطاق الخاص. الى ان اختلطت الامور. اقتحم السياسي حقل الصفقات الرابحة واصبح المليونير يعتبر المناصب السياسية حقا مكتسبا لتأمين انقاذ العالم. واذا الطبيب خبير في البورصة والمهندس مستورد سيارات والمحامي وكيل اتصالات الكترونية والمحاسب زعيم والزعيم القائد كاتب روايات. القاسم المشترك هو التطلع الى النجومية العامة بالاضافة الى تأمين السيولة الخاصة، واحيانا الطموح الى التألق في مجال الغرام.

لم تعد الثروة وحدها هي المبتغى، بل الثروة التي تفحم الآخرين. ولم تعد القناعة كنزا لا يفنى، بل هي كنز يمكن التفاخر به امام الجميع. ولكي نبقى في الامثال السعيدة، نذكر ان المليونير الروسي، اي الاتحاد السوفيتي سابقا، خودوروفسكي امتعض لأن مجلة «فورتشن» ذكرت انه يملك حوالي المليار دولار فابلغ «الفايننشال تايمز» انه يحوز ما فوق الثلاثة مليارات.

انما المد المالي بدأ ينحسر. وبدأت ردود الفعل. فاذا كان يمكن تصحيح المغالطات الحسابية الا ان الاخطر هو الخطأ في الحساب والخلل في التقدير. وبدأت النجوم المالية والسياسية تفقد حصانتها. آخر الضحايا هو رئيس ثاني اكبر مجموعة اعلامية في العالم، فيفندي، فقد نجح جان ماري سييه في تحويل شركة مياه عادية الى امبراطورية تشرف على مائة مليار دولار الى ان استعجل المزيد من السيطرة والتوسع بين فرنسا واميركا فخسر الاولى دون ان يربح الثانية وفقد منصبه هذا الاسبوع.

لقد تبين بالتجربة ان الخطوات المدروسة في فريق متوازن محدد الاهداف واضح الادوار هي الضمانة لتفادي القفز في المجهول في عالم سريع التبدل. والمفهوم ان ما يسري على امور الادارة والمال ينطبق على قرارات السياسة المصيرية. وها نحن كلنا ندفع ثمن اخطاء في الحساب.