هل ثمة ما يمكن أن يفعله الرئيس الفلسطيني؟

TT

يمكن الظن بأن اسرائيل والادارة الاميركية لديهما شكوك حول ما هو الافضل لهما: التخلص من عرفات، او الضغط عليه ليسير حسب المطلوب منه. ولا يبدو من مجريات الاحداث اليومية حتى الآن، وجود نية بالتخلص من الرئيس الفلسطيني، وهذا الامر في حد ذاته، وضمن هذه الظروف، يمكن ان يتحول الى اداة فعالة للتطوير في يد ياسر عرفات لو احسن التصرف، ولكنه على الارجح قد يتخبط في طريق التنازلات.

قبل تبيان المقصود بهذه المقدمة وما يمكن للرئيس انجازه من هذه الازمة، يجب تذكر ما قاله رئيس الوزراء شارون، نهاية الاسبوع الماضي، في اجتماع اقتصادي، وما معناه اتفاقه مع الرئيس بوش على خطة سرية لحل قضية الصراع والمشكلة الفلسطينية. من غير المستبعد ان يكون شارون وغيره قد اقنع الرئيس بوش بأهمية الضغط على الفلسطينيين ورئيسهم ليكفوا عن «العنف» وليلتفوا حوله، وليقدم عرفات برضاء شعبه، التنازلات السياسية المطلوبة منهم بعد ان يصلوا الى حافة اليأس السياسي والامني والاقتصادي. حياة الرئيس ضمن هذا الاجراء تبقى مضمونة بينما يتركز القتل على «المطلوبين». ومن شبه المؤكد ان شارون ابلغ بوش بأنه يوافق على الرؤية الاميركية لاقامة دولة فلسطينية، ولكنه لا يثق بفرصة اقامتها الآن. هكذا جاءت الشروط في خطاب الرئيس لاقامة الدولة متماشية مع موقف شارون: اقامة دولة على جزء من الارض المحتلة وبقاء قضية الحدود والقضايا الاخرى معلقة الى زمن قادم، وذلك دون اقرار اميركي حول نتيجة الحل. وقبل اقامة هذه الدولة المؤقتة يجب تنفيذ شروط عديدة منها الاصلاحات، وتغيير الشعب ديمقراطياً للقيادة، ونفي الشعب للعنف، ومحاربة القيادة الجديدة لمنفذيه، والكثير من الشروط الاخرى الشمولية. هذه الشروط الهلامية يمكن بعد شهرين القول بأنها طبقت اذا استوى الوضع السياسي للتنازلات او المماطلة لعقدين بأن الفلسطينيين لم يتجاوبوا مع شروط اقامة دولتهم واضاعوا مجددا الفرصة. الخيارات اذاً امام الفلسطينيين هي: الثبات النفسي مقترنا مع التحرك السياسي السريع والمكثف للتجاوب مع مضامين وعناوين طلبات الرئيس الاميركي، وبذلك يحرجون اسرائيل ويفشلون مؤامرتها ويحسنون وضعهم ويقتربون من الحل. الخيار الاخر هو الانهيار السياسي والتظاهر بالاصلاح لاسترضاء الخصوم عبر التنازلات، وهذا هو امل اسرائيل وهدف خطتها. وهناك احتمالات اخرى مليئة بالفوضى والخسارة والانهيار والاقتتال، كما نشاهد منذ مطلع الشهر في قضية تغيير القيادات الامنية وما تحمله من مخاطر.

علينا الانتباه الى حقيقة ان التغييرات في القيادة للاجهزة الامنية جاءت للتجاوب مع فقرة واضحة في خطاب الرئيس بوش اذ قال: اليوم فإن السلطة الفلسطينية تشجع الارهاب ولا تحاربه. هذا غير مقبول. الولايات المتحدة لن تدعم قيام دولة فلسطينية حتى ينخرط قادتها في قتال دؤوب ضد الارهاب ويفككوا بنيته التحتية. سيتطلب هذا رقابة خارجية لبناء واصلاح اجهزة الامن الفلسطينية.. أي ان التغيير في قيادات اجهزة الامن الان لا يتم بسبب تقصير الاجهزة في الدفاع عن الشعب والتصدي لقوات الغزو كما حصل، وانما للتقصير في محاربة «الارهاب»، وبالتالي كان اول تصريح لقائد الامن الوقائي الجديد انه سيحارب الارهاب وسيتعامل مع اسرائيل كشريك وليس كخصم. من الملفت للنظر ان سبب التغيير للقيادات الامنية غير معلن، كما انهم لم يبتعدوا عن الحياة السياسية وصنع القرار، ولم يكافأ احدهم او يقدم لمحاكمة. ويلاحظ ان الاجهزة نفسها لا تريد التنازل عن زعيمها، او على الاقل، لا تريد زعيما من خارجها الى درجة تحدي قرار الرئيس علنا ومخاطبته عبر اجهزة الاعلام. هم ايضا لم يحتجوا ضمن اطار وطني بمعنى ان المعزول بطل والمعين غير ذلك، او ان الوضع الجديد سيحد من خدمة الجهاز للمصالح الوطنية... الكل ينظر الى موقعه ضمن فريقه، والخوف ان يصله التغيير وتضييع المزايا وعلى الاقل الراتب. هذا الحال هو الانعكاس الحتمي لاسلوب الرئيس في الحكم واختياره للمسؤولين.

الورطة الآن ان يلبي عرفات رغبات اسرائيل وواشنطن الامنية بمحاربة «الارهاب»، وعندها سوف يتقبلون أي اجراءات سياسية وكأنها قادت للاصلاح المطلوب. والمأساة ان الفلسطينيين لم يكونوا بحاجة للوصول الى هذا الوضع اصلاً. الرجاء، غير المتوقع في ظل العقلية السائدة، ان يُسخر الرئيس الوضع لانجاز ايجابي ضمن بعض او كل الاجراءات التالية:

الاقرار بالاخطاء العديدة التي اوصلت الشعب الفلسطيني الى هذا الحال وبتحمل الرئيس للمسؤولية، وبالتالي طلبه التدخل العالمي المؤقت لاصلاح الحال ضمن عدة اشكال: طلب الانتداب الاوروبي او السويسري عبر الامم المتحدة ليساعد الشعب الفلسطيني على اعادة البناء وتأسيس دولة ديمقراطية، على ان تحل جوانب القضية ضمن قرارات الامم المتحدة. يمكن للرئيس ايضاً ان يطالب علناً بقدوم قوات حلف ناتو الى فلسطين لتحمي الحدود الدولية ضمن قرارات الامم المتحدة وتحمي الشعبين من بعضهما البعض وتوفر الامن لبناء دولة فلسطينية ديمقراطية. حتى يعطي الرئيس مصداقية لطلبه الانتدابي او بالحماية عليه اعلان الاستعداد لجمع وتسليم كل الاسلحة الفلسطينية عن بكرة ابيها، وبالطبع اعلانه التخلي عن الحكم عندما يطلب منه جهاز الانتداب او الحماية ذلك.

بإمكان الرئيس ايضاً ان يعلن انه لن يرشح نفسه للانتخابات اذا تقدمت الولايات المتحدة بحل سلمي عادل وشامل ومحدد زمنياً ومضمون تطبيقه، وانه سيتمنى على شعبه الفلسطيني ان يتقبل وينفذ كل الشروط المقرونة بمثل هذا الحل.

يمكن للرئيس عرفات ان يتنازل عن وهم اقامة دولة فلسطينية في كل الارض المحتلة عام 67، ويعلن الاستعداد للتنازل عن حل الدولتين والقبول بحل دولة واحدة لشعبين على غرار جنوب افريقيا (مهم جدا الان في ظل اجراءت الفصل العنصري الاسرائيلية الجديدة)، وبالطبع عن نهاية دوره السياسي.

يستطيع الرئيس الفلسطيني، على الاقل، اعلان الاستعداد لمقايضة موقعه السياسي، أي عدم ترشحه للانتخابات القادمة، في مقابل اعلان اسرائيلي برلماني ملزم بقبول الانسحاب من كل الارض المحتلة عام 1967، وحل بقية جوانب القضية ضمن رؤية الامم المتحدة، والالتزام الفلسطيني بكل الشروط الامنية الاسرئيلية. الاجراءات اعلاه، او أي منها، سيوضح حقيقة الامر ويفضح الموقف الاسرائيلي ويحرج الولايات المتحدة، ويخدم حاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني على خير وجه. ان السبب الرئيسي للتنازلات وللانهيار المتوالي في العقد الماضي مرتبط بمعرفة الخصوم لاصرار الرئيس على رئاسة شيء يسمى دولة فلسطينية بأي ثمن.

وحتى يأتي موعد الانتخابات القادمة، يمكن للرئيس ان يستغل بقية سلطته ليمهد لديمقراطية فلسطينية جنينية، وذلك عبر القول والعمل في المجالات التالية: الاعتراف بالاخطاء وبانواعها واسبابها في محاضرات اسبوعية علنية. الاقرار بأهمية المؤسسات والتثقيف حول دورها وشرح مساوئ الفردية، وقيام الرئيس بازالة صوره من الشوارع والمؤسسات. فتح الحوار حول النظام السياسي المطلوب: ملكي، رئاسي اميركي، رئاسي فرنسي، رئاسة وزراء، مجلس نواب او شورى الدستور، الذي اعلن هذا الاسبوع مؤقت وبحاجة للنقاش... بالطبع لن يفعل الرئيس أي خير، وسيستمر التخبط والانهيار، فهذه سنة العمل الفردي التسلطي. فشل المتسلطون ولو نجحوا.