مفاهيم ملتبسة حول العولمة

TT

في بيروت حيث كنت الاسبوع المنصرم، شاركت في الندوة المتميزة التي نظمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حول «الابداع الثقافي والاعلامي في مواجهة العولمة»، في اطار التوجهات الجديدة للمنظمة ومديرها العام الدكتور المنجي بوسنينة، الساعية لتقرير موقع الثقافة العربية في الرهانات الفكرية العالمية.

وليس من همي استعراض البحوث والمناقشات التي تمت في اطار الندوة، وانما سأكتفي بتقديم جملة من الملاحظات الاساسية التي اعتقد انها الاشكالات الملتبسة في الخطاب العربي حول العولمة. اولى هذه الملاحظات تتعلق بصلة العولمة بالحداثة، باعتبار ان هذه الصلة نادرا ما يتم ضبطها وتناولها بالعمق النظري المطلوب، حتى لو كانت حاضرة ضمنيا في الاذهان والكتابات (غالبا عن غير وعي ودون قصد).

فأحيانا ينظر الى العولمة، من حيث هي مرحلة اكتمال الحداثة، ببلوغ مسار التقنية ولحظة تجسيد غاياته ومطامحه بتثبيت امكانات السيطرة الشاملة على الطبيعة وتحقيق مطلب القولبة الكونية للمسارات الاقتصادية والاجتماعية (مشهد العقلنة الذي تحدث عنه ماكس فيبر).

وفي المقابل، ينظر البعض الآخر الى حركية العولمة بصفتها قطيعة مع حقبة الحداثة، وبداية افق ثقافي ومجتمعي جديد يتلاءم والثورة التقنية الثانية التي غيرت جذريا ـ من هذا المنظور ـ ادوات المعرفة ورهانات الاقتصاد والسلطة والمجتمع، وتلك هي النغمة الشائعة في الادبيات المستقبلية الاميركية.

والواقع ان اشكالية صلة العولمة بالحداثة تتحدد في مستويين متمايزين، يتصل احدهما بالبنية المؤسسية والنظم المجتمعية، ويتعلق ثانيهما بالخطاب النظري والانسقة القيمية. فاذا تأملنا في المستوى الاول، امكننا القول ان ديناميكية العولمة قد حوّرت، جذريا، هذه البنية والنظم المؤسسية والمجتمعية، على الاقل في ما يتصل بادارة الطبيعة، اي بالاطر التقنية بانعكاساتها المعروفة على الاقتصاد والمجتمع، مما نلمس اثره واضحا في العديد من الظواهر، مثل الانفصام المتزايد بين الزمن السياسي (الدولة القومية) والزمن الاقتصادي (توحد المنظومة الرأسمالية العالمية) والزمن الاجتماعي (المفهوم الجديد للمواطنة الذي تسعى لتكريسه شبكات المجتمع المدني العالمية..) وتبدو هذه الظواهر في قطيعة واضحة مع زمن الحداثة الموحد والغائي والممركز الذي ينتظم حول الدولة القومية بصفتها «الوحدة الروحية لعصور الحداثة» حسب عبارة هيغل.

اما اذا توقفنا عند المستوى الثاني، امكننا القول ان ديناميكية العولمة من حيث قاعدتها النظرية والقيمية تطرح اسئلة وتحديات غير مسبوقة على خطاب الحداثة، حتى ولو كانت لا تقدم بديلا جديدا عنه.

فمن الواضح ان العولمة، حتى ولو كانت لا تقضي على «عصر الايديولوجيات» كما يتردد على ألسنة المتسرعين، تترجم ازمة «الحكايات الكبرى»، التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي ليوتار، ويتعلق الامر هنا بالانساق النظرية ـ القيمية الكبرى للحداثة وعلى رأسها الفلسفة التأملية الذاتية (التراث الديكارتي ـ الكانطي) والتاريخانية الغائية (التراث الهيغلي ـ الماركسي)، والتصورات التجريبية الوضعية، والايديولوجيات التبعوية التحشيدية.

ولم تنجح المحاولات العديدة لصياغة خطاب بديل يكون المضمون النظري والقيمي لديناميكية العولمة، سواء بالرجوع للادبيات الليبرالية المتطرفة او الاحتماء السطحي، ببعض شعارات ما بعد الحداثة، او التبشير بالديانة السبرتيقية الجديدة المزعومة.

وتقودنا هذه الملاحظة الى الاشكالية الثانية الملتبسة في الخطاب العربي حول العولمة، وهي اشكالية المضمون الثقافي للعولمة، اي بعبارة اخرى: هل العولمة مجرد ديناميكية اقتصادية ـ تقنية ام لها جوهر عقدي وقيمي ورسالة ثقافية؟

من الواضح ان الاجابة، التي كثيرا ما تتردد في الكتابات العربية، هي تأكيد وجود مضمون ثقافي لحركية العولمة، يقدم احيانا بانه النموذج الحضاري الغربي الذي يراد فرضه وتعميمه على البشرية برمتها، ويقدم احيانا اخرى بانه «الايديولوجيا الرأسمالية الاستعمارية» المنفلتة من عقالها بعد انهيار الخيار الاشتراكي. ومن البيّن ان الموقف الاخير نلمسه لدى قطاعات ثقافية واسعة في الغرب وبلدان العالم الثالث، وتعبر عنه التظاهرات التي واكبت دورات منتدى دافوس، في حين ينتشر الموقف الاول لدى اغلب كتابنا ومفكرينا.

وكنا قد توقفنا في هذه الصفحة مطولا عند مقولة «الحضارة الغربية» متسائلين عن دلالات هذا المفهوم الذي يستخدم على نطاق واسع من دون تدقيق وتمحيص، منتهين الى انه مفهوم اشكالي ملتبس يجمع بين خلفيات دينية تاريخية ومحددات فلسفية وايديولوجية ارتبطت بمنظومة الحداثة وهي حاليا موضوع مراجعة نقدية متصلة، اما التجربة التنموية والمظاهر السلوكية المتحققة فلا يمكن تحويلها سطحيا الى «نموذج حضاري» بالمعنى الدقيق للعبارة.

والواقع انه لا يمكن الحديث عن مضمون ثقافي حقيقي لديناميكية العولمة، فلا يزال الفكر الغربي يتمحور حول مرجعية الحداثة، حتى ولو كانت هذه المرجعية موضوع تساؤل ونقد مستمر، وتلك هي المفارقة الكبرى التي تسم العولمة من حيث هي حركة قولبة شمولية لها ادوات التحقق (تقنيات الاتصال التي وحدت البشرية) في الوقت الذي ليس لها مضمون ثقافي او قيمي تعرضه، في مقابل ديناميكية الحداثة التي بلورت قاعدة نظرية رصينة ونسيجا ايديولوجيا كثيفا (ترابط الثورات العلمية والتقنية وفلسفات التنوير..).

ان نهج الخطاب العربي السائد في اختزال العولمة احيانا الى واقع الهيمنة الاميركية او ما يدعى بالنظام العالمي الجديد، او اعطائها هالة نموذج حضاري جاهز للتصدير، وهو تعبير عن قصور فادح في استكناه تحولات نوعية تطال البشرية برمتها، وتستهدفها في مقوماتها الانطولوجية والمعرفية والسلوكية ولاستكناه هذه التحولات، لا بد من التحلي بملكة التساؤل وبالعقل النقدي الاشكالي، وتلك ملكة غابت منذ وقت طويل عن الفكر العربي.