بين الكرد والفلسطينيين.. ملامح مأساة مشتركة

TT

ظهرت بعد الحرب العالمية الاولى عدة كيانات كانت تشكّل جزءا من الدولة العثمانية، باستثناء كيان خاص بالفلسطينيين وآخر بالكرد. لذلك يمكن القول ان نهاية الحرب المذكورة كانت بداية نشوء لاهم قضيتين ساخنتين من قضايا الشرق الاوسط، وهما القضية الفلسطينية والقضية الكردية بابعادهما المأساوية المتلاحقة. والملاحظ ان دولة عظمى واحدة هي بريطانيا المسؤولة بالدرجة الاساس عن المصير الذي آل اليه الفلسطينيون والكرد، لأن الجيش البريطاني هو الذي احتل فلسطين عام 1917 وكردستان عام 1918، وحددت بريطانيا مصير هذين الشعبين وفقا لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية خلافا للالتزامات المترتبة عليها بموجب المعاهدات الدولية المبرمة في نهاية الحرب المذكورة.

قد يبدو للوهلة الاولى ان الحالة الكردية كانت أفضل نسبيا من الوضع الفلسطيني، لأن معاهدة سيفر Savers المبرمة في 10 آب (اغسطس) عام 1920، حددت مصير الكرد بشكل يحقق جزءا من أمانيهم القومية، بينما سكتت عن تحديد مصير فلسطين التي وضعت لاحقا تحت الانتداب البريطاني.

فقد قضت المواد 62 و 63 و 64 من تلك المعاهدة المبرمة بين الحلفاء والدولة العثمانية، على انشاء كيان خاص بالكرد الذين كانوا يعيشون في الدولة العثمانية، ولكن في مرحلتين متعاقبتين. فقد قررت انشاء كيان كردي في القسم الشمالي من كردستان، لينضم اليه في مرحلة لاحقة، الكرد في ولاية الموصل (أي القسم الجنوبي من كردستان). وخلافا لهذه المعاهدة الدولية، كانت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قد أبرمت في ما بينها اتفاقية سرية عام 1916 عُرفت باتفاقية سايكس ـ بيكو، كانت قضت بتقسيم الولايات العثمانية في ما بينها. وكانت ولايتا بغداد والبصرة بالاضافة الى فلسطين من حصة بريطانيا، بينما كانت ولاية الموصل وسوريا ولبنان من حصة فرنسا، لكن الجيش البريطاني، الذي احتل معظم مناطق ولاية الموصل قبل نهاية الحرب، استمر في تقدمه واحتل مدينة الموصل واطرافها بعد ابرام اتفاقية (مودروس) التي انهت الحرب بين الدولتين العثمانية والبريطانية. واعترضت تركيا على احتلال مدينة الموصل من قبل البريطانيين خلافا لاحكام هدنة مودروس، واستمرت في مطالبتها بالموصل مركز ولاية الموصل حتى بعد اجبارها على الانسحاب منها.

وكان الانجليز يسعون الى البقاء في ولاية الموصل التي لم تكن من حصتهم، لأنهم اكتشفوا فيها كميات كبيرة من النفط، خاصة في كركوك وفي اطرافها التي تشكل جزءا من الولاية المذكورة. وأدت مساعيها الى اقناع الفرنسيين بالتخلي عنها، لقاء اعطائهم حصة متميزة في شركة النفط التركية TPC ـ التي تحولت، في ما بعد الى شركة نفط العراق IPC ـ. وركزت بريطانيا جهودها في ما بعد على الحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية التي انشأتها عام 1921 من ولايتي بغداد والبصرة ونصبت الامير فيصل بن الحسين ملكا عليها. وكان هدفها من ذلك ايصال النفط المستخرج من حقول كركوك عبر الاراضي العراقية الى ميناءي حيفا وطرابلس، وشحنه منهما الى الدول الاوروبية والغربية. وأبرمت ما يشبه صفقة دبلوماسية بين بريطانيا وتركيا الكمالية التي كانت تطالب بولاية الموصل بحجة ان جيشها انسحب من الموصل بعد ابرام هدنة مودروس، وليس بسبب وجود اقلية تركمانية في الولاية، كما تدعي حاليا. لقد كانت تركيا تخشى من تنفيذ معاهدة سيفر، وانشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية، بينما كانت بريطانيا ساعية لإلحاق ولاية الموصل بالعراق لتأمين ايصال النفط الى الموانئ الواقعة على شرق البحر المتوسط. فتنازلت تركيا عن مطالبتها بالموصل، مقابل الغاء معاهدة سيفر، وهو ما تم في لوزان، حيث ابرمت معاهدة في يوليو (تموز) 1923 بين ممثلي الحلفاء وعصمت اينونو ممثل مصطفى كمال، نسخت نصوصها بنود معاهدة سيفر. وأدت المساعي البريطانية في أروقة عصبة الامم الى اصدار مجلس عصبة الامم قرارا في عام 1925 بالموافقة على الحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية مع وضعها تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 عاما.

وكانت المنطقة الكردية تعيش في غليان مستمر نتيجة تلاعب الدول العظمى والدول الاقليمية بمصيرها، خلافا للمعاهدات الدولية والتصريحات الرسمية للرئيس الامريكي ويدرو ويلسن، الذي اعلن في فرساي عام 1919 مبادئه الاربعة عشر بخصوص حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. واندلعت الثورات الكردية في شمال كردستان بقيادة الشيخ سعيد بيران وفي الجنوب بقيادة الشيخ محمود حفيد. فتولت قوات مصطفى كمال مهمة اخماد ثورة كرد الشمال بالحديد والنار، بينما كانت مهمة سلاح الجو البريطاني ووحدات من المشاة والليفي الآثوري قمع ثورة الكرد في الجنوب (كردستان العراق). واستمرت الثورات والانتفاضات الكردية حتى عام 1932، لتنطلق من جديد عام 1943 حتى 1947.

أما في فلسطين التي احتلها ايضا الجيش البريطاني عام 1917، فقد بقيت تحت الانتداب البريطاني لأنها كانت ضمن حصتها بموجب معاهدة سايكس ـ بيكو السرية. وكان وزير الخارجية البريطاني قد وعد زعماء الحركة الصهيونية في اوروبا عام 1917 اعطاء قسم من فلسطين لليهود لانشاء كيان خاص بهم، وهو ما يُعرف بوعد (بلفور). وهنا يبرز التناقض بين موقف بريطانيا في سعيها لالغاء نصوص معاهدة سيفر التي أقرت انشاء كيان خاص بالكرد، وموقفها الآخر في (منح) جزء من الاراضي الفلسطينية خلافا لالتزاماتها الدولية، لتأسيس دولة قومية خاصة باليهود يهاجرون اليها من اوروبا ومن ارجاء العالم الأخرى. وكان ذلك الوعد المشؤوم اشارة واضحة لفتح باب الهجرة الى فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني، للاستيطان فيها. وقد بلغ عدد المهاجرين اليهود الى فلسطين حتى عام 1948 قرابة 650.000 فرد، بضمنهم 90.000 يهودي استوطنوا القدس وحدها.

واستمرت اللعبة الدولية التي كانت وما تزال تتعامل بمستقبل شعوب المنطقة، فصدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947 قرار تقسيم فلسطين الى شطرين عربي ويهودي والذي رفضته الدول العربية، واعلن في 15 أيار (مايو) 1948 قرار انشاء دولة اسرائيل على الجزء المخصص لليهود، والذي ما فتئ يتوسع ويتمدد حتى شمل عمليا بعد حرب عام 1967 جميع الاراضي الفلسطينية، أي حتى اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة التي لا تزال محتلة من قبل الجيش الاسرائيلي.

لنعد من جديد للنظر في سياسة الدولة العراقية تجاه الكرد في كردستان العراق التي أنكرت الحقوق القومية الكردية التي التزمت بها لدى قبولها عضوا في عصبة الامم عام 1932، لكن سياسة العراق في العهد الملكي وفي بداية الحكم الجمهوري لم تكن تتصف بالعنصرية والعنف الا في فترات اخماد الانتفاضات الكردية. واتخذت لها بعدا آخر منذ اواسط 1963، خاصة بعد عودة البعث الى السلطة عام 1968. لقد خططت الانظمة العراقية منذ 1963 لسياسة جديدة تستهدف تهجير الكرد من كركوك والقرى الكردية القريبة منها لقربها من المنشآت النفطية، وامتدت في ما بعد لتشمل المناطق الكردية الأخرى، حتى انتهت بحملات الانفال عام 1988 التي أدت الى تدمير اكثر من اربعة آلاف قرية كردستانية وسوق ساكنيها البالغ عددهم اكثر من 182 الف مدني كردي الى مصير مجهول. ولجأت الحكومة العراقية، ايضا، الى استخدام الاسلحة الكيمياوية ضد ابناء قصبة حلبجة وضد سكان عشرات القرى الكردية الأخرى عامي 1987 و 1988. وتكفي الاشارة هنا الى ان مجموع عدد القرى الكردية التي دمرت في محافظة كركوك وحدها بلغ 779 قرية، بلغ عدد سكانها الذين رحلوا الى المجمعات القسرية او كانوا ضحايا الانفال 198.604 اكراد.

ولجأ النظام العراقي في كركوك وخانقين وسنجار بالذات الى اسلوب آخر وهو اجبار المواطنين الكرد والتركمان والكلدان على ترك مناطق سكناهم، وجلب العوائل العربية من وسط وجنوب العراق لتوطينها في مدنهم وقصباتهم وقراهم. وكان النظام ولا يزال مستمرا في هذه العملية، مع توفير السكن والعمل للمستوطنين الجدد وتوزيع الاراضي الزراعية عليهم وتوفير جميع المعدات التي يحتاجونها، مع تسليحهم بمختلف انواع الاسلحة الخفيفة (للدفاع) عن انفسهم في حالة تعرضهم لأي هجوم.

وبعد انتفاضة آذار 1991 ابتدع النظام العراقي اسلوبا جديدا يتمثل في اعطاء (الخيار) للكرد الذين يتم ترحيلهم من مدنهم وقراهم الواقعة تحت سيطرته، وذلك اما بالتوجه الى جنوب العراق فيسمح لهم في هذه الحالة بأخذ اموالهم المنقولة معهم، او الذهاب الى المنطقة الكردية التي تقع تحت سيطرة الادارة الكردية، فتصادر الاجهزة الأمنية للنظام اموال الكرد المنقولة منها وغير المنقولة بالاضافة الى الوثائق الرسمية التي يحملونها والتي تؤكد انتماءهم لمناطقهم. ولجأ النظام في ما بعد الى اجراء عنصري آخر وهو مطالبة الكرد وغيرهم بتغيير قوميتهم الى العربية واصدر بهذا الشأن قرارات وتعليمات رسمية نشرتها الصحف العراقية والعربية ايضا. ولا يزال النظام العراقي مستمرا في سياسته العنصرية هذه، رغم صدور قرار من مجلس الامن الدولي (القرار رقم 688 لسنة 1991) يمنع الحكومة العراقية من اضطهاد شعبها، ورغم استنكار المنظمات الدولية وهيئاتها المختلفة لهذه الاجراءات المنافية لابسط مفاهيم حقوق الانسان، وآخر تلك القرارات القرار الصادر من البرلمان الاوروبي في اواسط مايو (أيار) الجاري. ونظرا لتعذر وصول وسائل الاعلام العالمية الى المناطق الكردستانية الخاضعة لسيطرة الحكومة العراقية لنقل ما يتعرض له المواطنون الكرد والتركمان والكلدان في هذه المناطق، فقد استفاد النظام من السكوت دوليا والتعتيم اعلاميا واستمر في تنفيذ اجراءاته وممارساته العنصرية، وهذا بخلاف ما يقع في الاراضي الفلسطينية المحتلة، حيث نرى يوميا آثار التقتيل والتدمير التي تتعرض لها تلك المناطق من قبل الجيش الاسرائيلي المحتل.

ان ممارسات النظام الاسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني في الاراضي الفلسطينية المحتلة مدانة دوليا واسلاميا وعربيا، ولا تختلف ممارسات النظام العراقي ضد غير العرب في المناطق الكردستانية الخاضعة لسيطرته عن تلك الاجراءات باستثناء عدم مطالبة اسرائيل للعرب في الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي اسرائيل ايضا بتغيير قوميتهم الى الاسرائيلية!

* قانوني كردي مقيم في بريطانيا