.. لأنه بوش ولأنه رئيس الولايات المتحدة!

TT

ما كتب وما قيل حول وعن خطاب الرئيس الأميركي المتعلق بأزمة الشرق الأوسط لا تتسع له المجلدات، فكما هي العادة على مدى تاريخ القضية الفلسطينية ما أن قال جورج بوش الابن ما قاله حتى انهالت بيانات و«تحليلات» تسجيل المواقف على الصحف والمجلات والاذاعات والمحطات الفضائية فاختلط الحابل بالنابل وتداخلت الألوان الى أن طفح كيل الشارع العربي ومل الناس الحديث عن هذه القضية ولم يعد لديهم استعداد لسماع ما يقال في هذا الشأن.

إن هذا الاستنفار الذي يشبه «تغريبة بني هلال» حدث عندما صدر قرار التقسيم الشهير وعندما صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 وبعد الاعلان عن مبادرة روجرز الشهيرة وعندما أعلن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مبادرته المعروفة وبالطبع بعد اتفاقية كامب ديفيد واتفاقيات أوسلو ووادي عربة وكل المحطات الرئيسية والثانوية على طريق الصراع العربي ـ الاسرائيلي الطويل.

.. والآن هل نستطيع ان نتذكر بياناً واحداً من مئات الألوف من تلك البيانات وردود الأفعال التي احتلت اطناناً من أوراق الصحف والمجلات..؟ ثم هل ان هذه البيانات أفلحت في تغيير مسار الاحداث وأحلت واقعاً محل الواقع المعروف...؟

إنه من حق أي حزب أو مجموعة أو جماعة أو تنظيم أو منظمة ان يقول رأيه في تطورات قضية بهذا الحجم وهذا التأثير وهذه المصيرية، لكن ما بات يبعث على الملل والسأم أن هناك من أصبح مبرر وجوده، سواء كان حزباً أو منظمة وفي بعض الأحيان نظاماً، هو انتظار مستجد من مستجدات القضية الفلسطينية ليصدر بياناً عرمرمياً.. «وكفى الله المؤمنين شر القتال».. فتمضي الأمور إلى أن يقع مستجد آخر.. وهكذا على مدى تاريخ هذا الصراع.

وهنا واذا كان هذا الأسلوب «قُل كلمتك وامش» جائزاً في السابق فإنه بعد أن وصلت الأوضاع الى ما وصلت اليه غدا عبئاً على هذه القضية وأصبح، علاوة على إثارته للغثيان والسأم والملل، مدعاة لأن لا ينظر العالم إلى مواقفنا وردود افعالنا الا بالاستخفاف وعدم الجدية.

ربما لم يقتنع البعض حتى الآن، حتى على مستوى رؤساء الدول، أن القرار العالمي، عندما يجد الجد، في يد الولايات المتحدة وأن كل هذا الاهتمام بما احتواه خطاب بوش مرده أن هذا الخطاب هو خطاب رئيس الولايات المتحدة ولأن الولايات المتحدة تستطيع وقادرة على ترجمة ما يقوله رئيسها واقعاً على الأرض سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أم بالنسبة لقضية افغانستان أو قضية التلوث في العالم.

لقد تضمن خطاب بوش المشار إليه قضايا مصيرية وخطيرة جداً، وبدل هذه العاصفة الهوجاء من ردود الأفعال، حتى على مستوى الدول، كان المفترض أن نتوجه الى انفسنا والى العالم بكلام مفهوم فأسلوب «قل كلمتك وامش» لم يعد جائزاً ولا ملائماً وهو لا يفيد القضية الفلسطينية ولا الشعب الفلسطيني الذي أتخمه أصحاب ردود الأفعال الجاهزة دائماً بالمراجل الفارغة والشعارات البراقة.

هناك أمور تضمنها خطاب بوش تستحق التعامل معها بهدوء وبعيداً عن الارتجال، ولو أن هذا الخطاب ليس خطاب رئيس الولايات المتحدة لقلنا ليذهب الخطاب وصاحبه الى الجحيم، أما وأن هذا هو واقع الحال وأن دولاً بحجم الصين وروسيا تستجدي رضى الولايات المتحدة استجداءً فإن علينا على مستوى الاحزاب والتنظيمات والدول ان نأخذ الأمر بجدية متناهية وان لا نقول كلمتنا ونمشي.

أليس ارتجالاً أن يتحدث «الأخ» نبيل شعث عن هذا الخطاب في اليوم الأول بلغة، ثم في اليوم الثاني يتحدث عنه بلغة اخرى.. وهذا ينطبق على «الأخ» صائب عريقات وعلى معظم رموز السلطة الوطنية.. وعلى بعض المسؤولين في بعض الدول العربية...؟

أليس ارتجالاً أن تبادر تنظيمات فلسطينية اساسية إلى اصدار بيانات الشجب والتنديد قبل أن تقرأ هذا الخطاب وقبل ان تتشاور مع كفاءات الشعب الفلسطيني بل قبل أن تتصل بالسلطة الوطنية وبياسر عرفات للاتفاق على ما يمكن ان يقال ولو من قبيل توزيع الأدوار..؟! إن ما هو ليس من قبيل المبالغة أو «التشنيع» ان هناك من لم يقرأ قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي صدر قبل نحو خمسة وثلاثين عاماً والذي هو اساس عملية السلام التي بدأت بعد حرب يونيو (حزيران) مباشرة حتى الآن، ومع ذلك فإن هؤلاء أعلنوا وما زالوا يعلنون أنهم ضد هذا القرار على اعتبار أن ما تضمنه وما احتواه لا يساعد في استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه التاريخية.

لقد جاء خطاب بوش بعد مخاض عسير وبعد أن اجلته تطورات الاحداث في فلسطين اكثر من مرة، وكان المفترض ان تكون السلطة الفلسطينية، رغم ظروفها وأوضاعها الصعبة أعانها الله، جاهزة لدراسة ما تضمنه وأن تكون حازمة بحيث لا يصدر الا رأي واحد وأن لا يسمع العالم الا صوتاً واحداً وبحيث لا يقول «الأخ» نبيل شعث شيئاً في اليوم الأول ويقول ما يناقضه في اليوم التالي.

وحتى بالنسبة للتنظيمات الفلسطينية الأساسية وخصوصا التي تعرف الواقع على الأرض والتي تدرك حجم وضخامة التأثير الأميركي على القضية الفلسطينية، سلباً وايجاباً، ألم يكن الاجدى أن لا يصدر عنها أي رد فعل، لا سلبي ولا ايجابي، الا بعد اجتماعات طارئة لهيئاتها القيادية وبعد التشاور ودراسة هذا الخطاب دراسة متأنية وعلى اساس ظروف وأوضاع الشعب الفلسطيني الراهنة وبعيداً عن اسلوب: «قل كلمتك وامش»..؟!! لأن هذا الخطاب هو خطاب رئيس الولايات المتحدة، الدولة التي غدت المتفردة بالقرار العالمي، ولأن هذا الخطاب احتوى اموراً خطيرة ومصيرية بالنسبة لقضية العرب الأولى والمصيرية، فإن الرد عليه، من قبل الدول والاحزاب والمنظمات ومن قبل السلطة الوطنية الفلسطينية ايضا، كان يجب ان يكون عقلانياً ومتأنياً وبعد الحصول على العديد من الايضاحات من الولايات المتحدة نفسها ومن غيرها.

كان على كل الذين اصدروا بيانات شجب واستنكار لهذا الخطاب، بكل ما احتواه وبدون تمييز، ان يدركوا انه جاء تجسيداً لمعادلة اختلاف الآراء والمواقف في مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وان المفترض ان لا يكون رد الفعل عليه عاجلاً وفورياً على غرار ما رأينا وسمعناه وقرأناه والذي أبهج الاسرائيليين ولم يغضبهم.

لم يقل الاميركيون، لا في هذا الخطاب ولا في تصريحات كبار المسؤولين اللاحقة، انهم سيطيحون بياسر عرفات وأنهم سيفرضون على الشعب الفلسطيني عدم اختياره في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية المفترضة المقبلة، بل قالوا انهم لن يتعاملوا مع الرئيس الفلسطيني وإنهم لن يدعموا هدف اقامة الدولة الفلسطينية اذا اعيد انتخابه مرة اخرى.

ان الفرق واضح وانه ليس صحيحاً ان المعنى واحد ويمكن الجزم حتى اليقين ان كل ما قاله بوش في خطابه هذا وأن كل ما جاء في تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين بهذا الصدد وعلى هذا الصعيد يمكن ادراجه في دائرة الضغط والمزيد من الضغط للاستجابة للشروط والمطالب الاميركية وبخاصة المتعلقة بالاصلاحات المطلوبة في السلطة الوطنية الفلسطينية وبضبط الحالة الأمنية وبذل اقصى الجهود «فعلاً لا قولا» لمنع العمليات الانتحارية أو الحد منها الى أبعد الحدود على الأقل.

يجري الحديث عن مرحلة انتقالية، قبل وبعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية المفترضة، ويقيناً ان الاميركيين والاسرائيليين سيضطرون الى الخضوع للأمر الواقع اذا اختار الشعب الفلسطيني عرفات رئيساً له مرة اخرى ولكن بـ «شرط» ان يبدأ ابو عمار ومنذ الآن التعامل مع الوضع بمجمله وعلى مختلف جوانبه بما في ذلك العمليات الانتحارية بطريقة غير الطريقة السابقة.

كان يجب ان تتم دراسة هذه الامور جميعها، حتى من قبل فصائل المعارضة الفلسطينية الرئيسية، قبل الاستعجال واصدار بيانات الشجب الجاهزة على طريقة «قل كلمتك وامش»، فالمسألة ليست مسألة موقف عابر لرئيس اي دولة، ان المسألة هي مسألة ان هذا الموقف بغثه وسمينه، هو موقف رئيس الولايات المتحدة الاميركية.. الدولة المقتدرة التي تحدد اتجاهات الاحداث ليس بالنسبة للقضية الفلسطينية فقط وانما بالنسبة لكل قضايا العالم الساخنة.

إننا نعرف، وهذا لا يحتاج الى براهين وادلة، ان الولايات المتحدة منحازة لاسرائيل منذ البدايات وليس منذ الآن، لكن هل ان الحل هو أن نشبع الاميركيين شتماً ونتركهم يفوزون بالابل، أم نرتقي بمستوى ادائنا ونتخلى عن اساليبنا البائدة التي اعتدنا اتباعها في التعاطي مع قضايا بكل هذا الحجم من التعقيد والخطورة..؟!