المستقبل العربي: ثوابت ومتغيرات

TT

ليس واضحا اذا كان معدو تقرير التنمية الانسانية في الوطن العربي قد قصدوا استدعاء المقارنة عندما تحدثوا عن أن دخل الدول العربية مجتمعة يساوي دخل إسبانيا. فإسبانيا هي التي عاش فيها العرب ثمانية قرون، وأصبحت مركزا اشعاعيا حضاريا أثر على القارة الأوروبية في عهدهم الزاهر، لكنها تعود اليوم وبعد قطع صلتها بالعالم العربي والخلافة الاسلامية، لتصبح في مقابل العالم العربي بأكمله. باختصار هل أصبح البعد عن العرب غنيمة واتاحة للفرصة للتدرج في سلم الانجاز المادي والمعنوي لبناء الأمم.

تفاصيل الصورة التي يرسمها التقرير الذي أعده مثقفون وأكاديميون عرب تتحدث عن نفسها عاكسة الواقع المرير، حيث أكثر من نصف الشباب يتطلع الى الهجرة والبحث عن مستقبل في بلاد أخرى. ومع ان المنطقة تعتبر أفضل نسبيا في ما يتعلق بتوفر الموارد الاقتصادية، الا انها تحتاج الى 140 عاما لمضاعفة دخلها، بينما بقية الأقاليم تحتاج الى عقد فقط من الزمان لتحقيق هدف مضاعفة الدخل.

والعالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه اليوم 280 مليون نسمة، يتوقع له أن يزيد الى 400 مليونا في غضون عقدين من الزمان. وما لم تبذل جهود حثيثة لتوفير المزيد من الخدمات والوظائف، فإن المنطقة مرشحة لأن تصبح أكثر فقرا، وأصغر سنا، الأمر الذي يزيد من حالات الإحباط وتهيئة الأرضية الملائمة للإحباط والتطرف، وزيادة حالة الانقطاع والتواصل عن العالم، خاصة ان هناك نسبة 2، 1 في المائة فقط لديها جهاز كمبيوتر و 6، 0 في المائة مشتركون في الإنترنت. وتزداد الفجوة ضخامة مع ملاحظة ان 65 مليون نسمة يرزحون تحت نير الأمية وان عشرة ملايين طفل لا يجدون طريقهم الى المدرسة، إضافة الى وضع المرأة في أسفل السلم اجتماعيا وتعليميا ووظيفيا.

المنطقة العربية التي تعيش ظروفا أفضل، مقارنة بالعديد من المناطق النامية، ولا تعاني من الحروب الأهلية الكلاسيكية، الا بصورة استثنائية مثلما هو الحال في السودان، كما ان عهدها بالاستعمار تجاوز نصف قرن من الزمان، تثير أسئلة عديدة حول لماذا تعيش حالة من الفشل والإحباط المستمرين رغم هذه النقاط الايجابية المذكورة التي كان ينبغي أن توفر لها نقطة انطلاق نحو حاضر أفضل من الذي تعيشه حاليا.

التقرير تحدث عن الفجوات والعجز في ثلاث دوائر أساسية، هي فجوة الحرية، والمعرفة، ووضع المرأة في المجتمع، وتزامن نقاط الضعف هذه مع بعضها البعض، الأمر الذي أضاف قيمة الى تأثيرها السلبي وأسهم في إحداث نقلة نوعية لم تمر بها الدول والمناطق النامية التي عانت من واحدة فقط من هذه العناصر لم تقعد بها عن اللحاق بركب التقدم.

على أن سطور التقرير تطرح فجوة رابعة هي التعامل مع العالم العربي وحدة واحدة، وهي حالة يمكن اعتبارها ذهنية أو عاطفية أو من باب التعاطي السياسي الذي لم يجد طريقه الى أرض الواقع. حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة المشتركة تتطلب مثل هذا التناول، الذي كان يشير الى واقع التجزئة كمرحلة عابرة ستتخطاها المنطقة وهي تستشرف تكاملا في الحد الأدنى إن لم نقل وحدة في المستقبل القريب بعد التخلص من الاستعمار والمؤامرات الخارجية.

لكن عقودا من المد القومي الذي تراجع منكسرا بعد هزيمة 1967 لم تفلح في تقريب الشقة بين أطراف الوطن العربي، تماما كما لم تنجح الموجة الاسلامية التي أعقبت في وضع أسس للوحدة المنشودة. بل ان أعظم تلاحم شعبي تم بالرغم من ساسة ونظريات اليمين واليسار، وأنجز عمليا لأسباب اقتصادية بحتة، كان من خلال الهجرة الى دول النفط إبان فترة الطفرة في السبعينيات والثمانينات، التي أصبحت تيارا جارفا رغم سعي الدول المصدرة للعمالة، وتلك المستقبلة لها، للحد منها أو تقنينها لأسباب مختلفة، وذلك في مسعى غير موفق للسيطرة عليها وتقليص الانعكاسات السلبية والاختلالات الناجمة عن مثل تلك الهجرة المكثفة على مجتمعاتها.

هذه التجربة التي كان يمكن أن توفر الأرضية الفعلية لأسس وحدوية، تمت كلها في اطار معالجات قطرية ضيقة الأفق من جانبي دول تصدير العمالة ودول استقطابها رغم المؤتمرات العديدة التي عقدت والخطط الكثيرة التي طرحت. واذا كانت هذه الفترة قد أسهمت بشكل لا يمكن انكاره عند الحديث عن تحسين مستويات المعيشة وفرص التعليم وزيادة فرص الاستثمار وتنقل الأموال داخل المنطقة، الا انها في غياب سياسة قومية المنحى، أصبح التنافس على المستوى الفردي ومستوى الدولة سمة وعاملا في تعميق حالة التجزئة والتركيز على المصالح الفردية، وهي المرحلة التي وصلت قمتها بالاجتياح العراقي للكويت. فالتجاوب الذي لقيته الدعوة العراقية بتقسيم الثروة والربط بين القضايا من الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية الى الاحتلال العراقي للكويت في أجزاء كبيرة من الوطن العربي، رغم غوغائيتها، يشير الى حالة الاحتقان التي كانت ولا تزال سائدة ولم تجد حظها بعد من التناول السياسي الرشيد.

على أن فترة الطفرة، التي لم ولا يمكن الحفاظ عليها بصورة متصلة، لم يستفد منها بالطريقة التي تتيح المجال أمام تنمية مستدامة تلبي احتياجات المنطقة، ومن هنا جاءت حالة الإحباط والنظر في الحلول الفردية للخلاص عبر الهجرة. وهو تطلع يماثل حالة الأمل في الراحة من الخازوق بأي شكل ولو في فترة قصيرة. فالكل يتطلع الى هجرة ولو الى دولة مجاورة تنقذه مما هو فيه، حتى وان كانت المقصودة مليئة بمتاعب أكثر من التي يواجهها الفرد في وطنه، لكنها الرغبة في الراحة ولو بصورة مؤقتة من الخازوق.

ان المطلوب بداية الاعتراف بحقيقة أن دول المنطقة العربية تختلف في ما بينها لأسباب تتعلق بتجاربها ومكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، رغم انها تملك أسسا يمكن البناء عليها لتحقيق تكامل أولي يمكن أن يفتح الطريق أمام وحدة مستقبلية تقوم على أسس مصلحية في المقام الأول هدفها خدمة أهل البلد المعني، ومن خلال تبادل المصالح هذه تبنى الأرضية الملائمة لإقامة وحدات أكبر.

فشل التجارب السابقة لا يفرض وحدة نوع المراجعة المطلوبة، وإنما متغيرات العالم الخارجي والمنطقة العربية نفسها. فهناك عمليات التضييق على الهجرة الى الغرب عموما، وهناك ضغط عوامل النمو السكاني وضيق فرص العمل في المنطقة العربية، الأمر الذي يتطلب النظر الى المنطقة كسوق أكبر وأوسع، وهناك التغير الكامل في النظرة الى الأوضاع الاقتصادية والتنمية وإيلاء القطاع الخاص دورا أكبر مع السعي ولو نظريا من قبل كل الدول العربية الى تقليص دور الدولة في العملية الاقتصادية. وهناك الدور الخجول الذي تتجه مؤسسات المجتمع المدني العربي للقيام به، ومن دلائله اعداد هذا التقرير بواسطة مجموعة مستقلة عن الحكومات. ولعل هذا الجانب يحتاج الى عناية أكبر اذا أريد النظر الى المستقبل العربي بشىء من الأمل والتفاؤل.