ما خلفه فيضان الفضائح يتجاوز الشركات الأميركية

TT

ها هي ادارة الرئيس بوش تجد نفسها في منعطف شاق غير عادي، في أعقاب انهيار آخر قد تشهده واحدة من أكبر الشركات الأميركية. فعندما أعترف مديرو شركة «وورلد كوم»، كما هو حال «انرون» التي سبقتها، بأنهم لم يقدموا البيانات المالية الصحيحة الخاصة بالشركة، اهتزت أسهم الشركة الى الحد الذي أصاب دوائر التجارة في الولايات المتحدة بصدمة كبرى.

لقد شهدت السوق الأميركية، خلال الأشهرالقليلة الماضية، انهيار عدد آخر من الشركات مما أدى الى فقدان عشرات الالاف لوظائفهم. والتأثير الذي أصاب سوق الأوراق المالية كان هائلا حيث شهد مئات الآلاف من الأميركيين أموال استثماراتهم وتقاعدهم وهي تتبخر أو تستنزف، الأمر الذي دفع العديد من الأميركيين الى المطالبة بالاجابة على أسئلتهم وبتحقيق العدالة. وما جعل الأمر أكثر مأساوية بالنسبة للبيت الأبيض، هو توارد روايتين اضافيتين قد تسببان احراجا للادارة، تتعلقان بأنشطة مالية غير مقبولة لها علاقة بالرئيس بوش وبنائبه ديك تشيني.

خلال الاسبوع الماضي ظهرت روايات جديدة أثارت أسئلة بشأن عملية بيع أوراق مالية خلال عام 1990، نفذها رجل أعمال يدعى جورج دبليو بوش. فبعد ثمانية أيام من بيع بوش لما قيمته 850 الف دولار أميركي من أسهم شركة هاركن اينرجي (للطاقة)، أصدرت الشركة تقريرا ماليا يشير الى أوضاع سيئة تعاني منها، الأمر الذي أدى الى انهيار قيمة أسهمها بشكل كبير. ونتيجة لذلك طرح البعض تساؤلا حول ما اذا كان بوش، الذي كان يعمل مديرا للشركة، على علم مسبق بحالتها، وانه بالتالي تورط في عملية «تجارة مشبوهة». وقد تعقدت الرواية بشكل أكبر بعدما تبين، الآن، ان بوش اشترى، في بادئ الأمر، بعض الأسهم بقرض حصل عليه من الشركة وفقا لفوائد ميسرة، ولم تتم الصفقة نظرا لتأخره في تعبئة بعض الاستمارات المطلوبة المتعلقة بعملية البيع.

وخلال الاسبوع نفسه، قررت مجموعة رقابة متخصصة تدعى الرقابة القضائية، مقاضاة نائب الرئيس ديك تشيني وشركة النفط التي كان يرأسها، قبل أن يصبح رفيق بوش في الحملة الانتخابية. وقد زعمت هذه المجموعة، التي لاحقت الرئيس كلينتون لفترات طويلة، ان شركة «هاليبورتون، التي رأسها نائب الرئيس، كانت قد تورطت في «مشروع هائل لتضليل وخداع مالكي أسهمها والمستثمرين المحتملين وسوق الضمانات المالية»، عندما قدمت معلومات مضللة بشأن «موقفها المالي الصحيح وقيمة أصولها المالية».

هذا الاسبوع تبينت بجلاء صعوبة الموقف الذي يواجهه البيت الأبيض، من خلال المؤتمر الصحافي المرتجل للرئيس بوش، ومن خلال رد فعل الناس بشأن قضية هامة تناولها الرئيس تحت شعار «مسؤولية الشركات الكبرى».

عندما قرر البيت الأبيض عقد مؤتمره الصحافي المفاجئ يوم 8 يوليو (تموز) الجاري، كان قد أراد، في بادئ الأمر، الضغط على الكونغرس لتمرير تشريع أعد لاقرار موقع وزير الأمن الداخلي الذي أراده بوش. لكن لم يتسن للرئيس اقناع المحررين الصحافيين بالتخلي عن التركيز على انهيار شركة وورلد كوم، وعلى تعاملات الرئيس مع شركة هاركن كمدير لها. وتمحورت معظم الأسئلة (22 من 23 سؤالاً وجهت للرئيس) حول هذه المسائل. ولما وجد نفسه في موقع المدافع غير القادر على العودة بمسار الأسئلة الى الاتجاه الذي يرغب فيه، بدا عليه الانزعاج كما لاحظ مراقبون. وفي اليوم التالي، أراد بوش تولي زمام المبادرة بالقاء خطاب هام حول مسؤولية الشركات الكبرى أمام مجموعة مختارة ضمت 600 من كبار مسؤولي شركات وول ستريت (سوق المال). ومن بين ما طرحه بوش دعوته لدوائر التجارة بالعمل وفقا لمستوى أخلاقي أعلى. وقدم مقترحا يتضمن عقوبات جديدة شاقة تشمل تحايل الشركات الكبرى، كما تعهد بتقديم المزيد من الأموال لجماعات الاشراف الحكومي التي تحقق في مثل هذه الأنشطة. لكن رد الفعل الصحافي والسياسي على خطاب بوش لم يكن كما توقعه البيت الأبيض. وكما قال خبير اقتصادي بارز فقد «قال لنا أولئك الذين تحدثنا معهم من وول ستريت، ان الرئيس أراد طرح المزيد، كما أنه أراد أن يتم ذلك بشكل مقنع». ومن جانبه قال معلق من أنصار الحزب الجمهوري: «يمكنني الاشادة بالرئيس لأنه بادر بالتعامل مع القضية والتحدث بشأنها، لكن عندما تبحث عن الخلفية وتنشد التفاصيل ستجد انها مخيبة للآمال». ما يثير الحيرة بدرجة تفوق التحليلات، حقيقة، انه في نفس اليوم الذي القى فيه الرئيس خطابه الذي أعد لتعزيز الثقة في أوضاع الاستثمار، هبط مؤشر سوق الأوراق النقدية نحو 300 نقطة. ويبدو ان أنصار الحزب الديمقراطي يعتقدون ان قضية مسؤولية الشركات الكبرى والأسئلة التي أثيرت حول تعاملات الادارة الحالية التجارية، قد تعزز فرصهم في تحقيق النجاح خلال انتخابات شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وقد عقدوا العزم بشأن التشديد على هذه القضية. وبينما يصر البيت الأبيض على ان تعاملات بوش مع شركة هاركن هي «ماض قديم»، وانه حصل على براءة ذمة من أي تصرف خاطئ بشأن المسألة، فقد طالب الديمقراطيون الرئيس بالاجابة على أسئلة أكثر تعقيدا مما ظهر حتى اليوم، بشأن مبيعات الأسهم التي أشرف عليها خلال عام 1990، وقد أصروا على أن تنشر لجنة الائتمانات والتبادلات النقدية، وهي الجهة التي حققت في عملية البيع، محتويات ما توفر لديها من معلومات لتوضيح المسألة للرأي العام. كما انهم طالبوا الرئيس أيضا باستبدال الشخص الذي عينه رئيسا للجنة المذكورة. ويطرح الديمقراطيون ان أحدا لا يستطيع أن يتوقع من ذلك الشخص تقديم صورة وافية اثناء التحقيق في سلوكيات هذه الشركات، بسبب علاقته بالعديد من شركات المحاسبة التي لها علاقة بالفضائح المالية الأخيرة. وقد يكون من المبكر جدا، الحكم حول مدى الضرر الذي سيلحق بادارة بوش نتيجة لأي من هذه المسائل. فاستطلاعات الرأي تشير الى صورة متناقضة. اذ يتمتع الرئيس بتأييد شعبي نسبته 70 في المائة، على الرغم من انخفاض مستوى تأييد سياسته الاقتصادية الى 58 في المائة فقط. ويخشى 80 في المائة ممن شملتهم استطلاعات الرأي، من تصرفات خاطئة متعلقة بالشركات الكبرى، لكن نسبة بسيطة للغاية منهم تحمل بوش المسؤولية. ومع ذلك فأكثر من ثلاثة أرباع الجمهور يعتقدون ان الرئيس بوش رجل نزيه. لكن حوالي 60 في المائة يعتقدون ان حزبه الجمهوري وادارته على علاقة حميمة بمصالح كبريات الشركات التجارية.

وقد علق محلل سياسي من أنصار الحزب الجمهوري على موقف الرئيس قائلا: «أعتقد ان شعبية الرئيس تستند الآن، الى حد كبير، الى الحرب ضد الارهاب والى مشاعر عامة بأنه صادق فيما يقول. فالخطاب الذي القاه لم يحظ بقبول السوق، وهى مسألة خطيرة في اعتقادي، لأنه لم يكن واضحا، كما انه لم يشر الى كل التفاصيل».

هناك فترات لم يمثل مصير سوق الأوراق النقدية خلالها شيئا بالنسبة لغالبية الأميركيين. لكن هذا الوضع لم يعد قائما. ومع استناد ملايين الأميركيين من العمال وعائلاتهم في مشاريع تقاعدهم الى أموال استثمرت في السوق، فسوف يؤدي انحطاطها المتواصل الى وقوع مشكلة مالية. وحتى في حالة ظهور مؤشرات عامة على تحسن أوضاع الاقتصاد، مع تدهور أوضاع سوق الاوراق المالية ومع هذا التدهور الناتج عن جشع واضح وسوء ادارة داخل الشركات الكبرى، فان الحزب الذي يتولى السلطة في واشنطن قد يتحمل المسؤولية. كما ان التدهور المتواصل لسوق الأوارق المالية يعرض برنامج الحزب الجمهوري المفضل ـ المتعلق برغبتهم في «خصخصة» صندوق تقاعد الضمان الاجتماعي للولايات المتحدة ـ للخطر.

هذه بوضوح قضايا ينوى أنصار الحزب الديمقراطي طرحها بقوة خلال شهر نوفمبر المقبل. وكما قال أحد نشطاء الحزب: «هذه قضية يمكن أن تنجح، ونحن سنقوم باستخدامها».

* رئيس المعهد الأميركي ـ العربي في واشنطن ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»