الموت بنقص الغذاء.. الموت بنقص المناعة

TT

يدعو الذين يملكون قلوبا تعرف الرأفة الى حرب كونية من طراز آخر. انها الحرب على المرض والتعاسة والموت إذا جاز التعبير.

ها هو مكتشف فيروس نقص المناعة المكتسبة «الايدز» البروفسور لوك مونتانييه يكتب مقالا طويلا يمكن اختصاره بكلمات: «أجل. ان المطلوب هو حرب فعلا. يجب ان نعلن الحرب على «الايدز» لانه آفة تهدد حضارة الكوكب أجمع. وقد اصبح هذا الوباء مسألة رئيسية من مسائل الأمن الدولي. انه يهدد نمو الدول، لا بل فكرة التطور نفسها. وفي وسعنا ان نربح هذه الحرب اذا عملنا على تأمين السبل اللازمة لذلك».

لكنها بالتأكيد كلمات تتبخر مثل نقاط ماء في يوم شديد الحرارة. ذلك ان العالم من اقصاه الى اقصاه مأخوذ بالحرب الأخرى، أو بالأحرى مصعوق بتلك الحرب التي يقرع جورج بوش طبولها في واشنطن.

وبغض النظر عن الحروب وما اذا كانت بدافع الرأفة أو بغرض الكراهية، فقد صادف هذا الاسبوع مناسبتين اثارتا في المراقبين مزيجا من المشاعر والتساؤلات وربما القنوط.

فمن دوربان في جنوب افريقيا حيث عقدت القمة الثامنة والثلاثون لـ «منظمة الوحدة الافريقية» التي تحولت الآن الى تسمية جديدة وهي «الاتحاد الافريقي» تيمنا ربما «بالاتحاد الاوروبي»، الى برشلونة في اسبانيا، حيث عقد المؤتمر الدولي الرابع عشر لمرض «الايدز»، كان يمكن قراءة اللافتة المؤلمة جدا والقائمة على التناقض الدولي الهائل والاختلال في التوازن والتي تقول:

«ان المرضى موجودون في الجنوب لكن العلاجات موجودة في الشمال».

لعلها صيغة أخرى من صيغ التفاوت المتوحش بين الشعوب والدول، مع ان الامر لا يخرج عن نطاق الواقع المخجل، حيث يعكف بعض اهل الشمال على اتلاف المحاصيل وقتل المواشي وطمرها في التراب بغية الحفاظ على ارتفاع الاسعار، في وقت يموت الناس جوعاً في الجنوب، وخصوصا في احزمة الجفاف والقحط في القارة الافريقية.

ولا ندري، في الواقع، اذا كان الذين اجتمعوا في برشلونة قد وقفوا ملياً على حقائق الموت عوزا وجوعا في افريقيا، ربما لأن همهم الاساسي كان التركيز على الذين يموتون «بالايدز»، ولكأن هناك اختلافا في الموت (!) وكذلك لا ندري اذا كان الذين اجتمعوا في دوربان قد تجاوزوا لبرهة «معميات السياسة» ليستذكروا الذين يموتون بين ايديهم بسبب الجوع، أو بسبب «الايدز»، لكن بين الموت الاسطوري الهائل بنقص الغذاء أو بنقص المناعة، يمكن لاصحاب القلوب النضرة والمخيلات التي لم تجف بعد، ان يروا بالعين المجردة «رداء الاثم الانساني» وهو يسقط على رؤوس الجميع.

لا حاجة بنا الى الاغراق في المشاعر والرومانسيات، لكن من الضروري ان نتنبه جميعا الى ان الذين يموتون لهذه الاسباب في افريقيا، ليسوا أكثر تعاسة بالمعنى الفلسفي والاخلاقي من الذين يتفرجون عليهم من الشمال.

وهكذا فاننا لا ندري في الواقع، ما الذي سيتغير بعدما صار اسم التجمع الافريقي «الاتحاد الافريقي» بدلا من «منظمة الوحدة الافريقية» التي لعبت دورا جيدا في الكفاح من أجل استقلال دول كثيرة في القارة، على امتداد 38 عاما. وبرغم الحبور الكبير الذي اظهره العقيد معمر القذافي عندما رفع قبضته وقال في ختام خطابه بلهجة حازمة: «ان انشاء الاتحاد الافريقي يجسد حلمي وانه يكفي لملء حياتي»، فإن الطموحات الكبيرة، كي لا نقول الاوهام الكبيرة، ظلت تحوم في فضاء المؤتمر، وخصوصا عندما كانت الاحاديث تتطرق الى أمور «الرخاء» الافريقي، و«الديموقراطية» الافريقية من خلال التكامل الاجتماعي والاقتصادي والاقليمي، وهو ما يذكر بالشعارات التي طالما قيلت عند الحديث عن «الاتحاد الاوروبي»! لكن كوفي انان، الذي ربما كان على صلة بما كان يقال في مؤتمر برشلونة، حرص على ان يسكب مياها باردة ومهدئة على الافكار الحامية في دوربان: «علينا ايها السادة ان نتجنب اعتبار آمالنا حقائق، والا نعتقد ان اعلان اتحادنا يعني انه اصبح واقعا من دون ان نبذل اي جهد من قبلنا».

ولم يكن هذا الكلام مغاليا على الاطلاق، فدون «الاتحاد الافريقي» ظروف هائلة من التخلف والنزاعات التي تتطلب ارادة سياسية حديدية، وصبر ايوب، وتسويات بلا نهاية تحتاج في أحيان كثيرة الى «المنطق القبلي» الذي لا يحتمل.

«يجب وقف الحروب في القارة قبل تدفق الاستثمارات (...) انهم سيحترموننا اكثر حين نقوم نحن بحل النزاعات التي تشوه قارتنا، والشد على كلمة حل النزاعات لا ادارتها»، ولكن كيف يمكن لكلمات انان هذه ان تتحول الى واقع وممارسة في تلك القارة التي تمزقها النزاعات؟

لا حاجة بنا الى التوهم، أو تصور كلمات ثابو مبيكي رئيس جنوب افريقيا الذي تولى رئاسة الاتحاد الجديد وكأنها ستصير مثل «امر اليوم» حيث تلقى تطبيقا أمينا في كل العواصم الافريقية: «يجب ان نفكر ونعمل بطريقة جديدة وان نتذكر مدى حاجة شعوبنا الى الديموقراطية والادارة الجيدة والقضاء على الفساد واحترام حقوق الانسان والسلام والاستقرار».

ولكن ماذا عن الجوع؟ وهل يكفي ان يصرخ الزعيم الليبي في وجه الغرب محذرا من ربط المساعدات بتوافر الادارة الجيدة، ومذكرا بان «الافارقة ليسوا متسولين»؟

وماذا عن «الايدز» الذي كان يضخ في برشلونة أرقاما لا تثير الذعر فحسب بل تكفي لتأثيم الوجدان الانساني وخصوصا عندما يتبين ان القارة السوداء في أجزاء كبيرة منها تتجه لتصير مقبرة اسطورية مخيفة؟

ربما يتعين التدقيق مليا في الارقام والحقائق التي أثيرت في برشلونة لكي نكتشف مدى هشاشة الحديث عن قيام «اتحاد افريقي» في وقت يواصل «الايدز» حصد افريقيا اذا جاز التعبير.

ففي دراسة اعدها «مكتب الاحصاء الاميركي» (ويا لسخرية الاحصاءات) ان معدل الاعمار في سبعة بلدان افريقية قد انخفض الى أقل من 40 سنة بدلا من 72 سنة بسبب «الايدز»، وتوقعت الدراسة ان يتناقص عدد السكان في خمس دول هي بوتسوانا وموزمبيق وليسوتو وسوازيلاند وجنوب افريقيا في خلال ثمانية أعوام، لأن عدد الوفيات يزيد على عدد الولادات.

ان الارقام هنا تتحدث عن اتجاه خمس دول الى الانقراض، اما في زيمبابوي وناميبيا فإن معدل النمو السكاني سيعادل الصفر.

ولأن المؤتمر المذكور تحول مبارزة بالارقام فقد حذر تقرير آخر اذاعته الامم المتحدة، من ان 55 مليون افريقي سيموتون بسبب «الايدز» من الآن حتى سنة 2020، مؤكدا ان ثلث سكان زيمبابوي مصابون بالفيروس القاتل.

ولكي تكتمل معالم الارقام المخيفة اظهرت دراسات ان «الايدز» سيقوض الاستقرار الاقتصادي الهش اصلاً في افريقيا، لأن أكبر نسبة في الوفيات ستصيب الذين هم بين 30 و40 سنة من أعمارهم وهي سن الانتاج والعطاء.

ولكن ماذا يعني كل البؤس والآلام اذا كانت وقائع النزاع الذي شهدته دوربان عينها قبل عامين لم تتغير قط، ذلك ان اميركا ما زالت تخوض حرباً ضد المنادين بانتاج رخيص للعقاقير والادوية وفي مقدمهم جنوب افريقيا والبرازيل، وذلك في اطار حرصها على حفظ الامتيازات والملكية التجارية لشركات انتاج الادوية وهي اميركية بالطبع؟

لا حاجة بنا الى اكثر من التقلب في مشاعر الألم والتعاسة، ربما يكفي ان نتذكر «المؤتمر الدولي الثاني للاغذية» الذي عقد قبل ثلاثة اسابيع في ايطاليا فحضره الجوعى وقد جاءوا من الجنوب وخصوصا افريقيا وتخلف عنه المتخمون.

وبرغم هذا ولأن انعقاده صادف وقائع «المونديال» فقد كان الاهتمام منصرفا الى اقدام اللاعبين اكثر من المتضورين جوعا، الى درجة انه اختتم اعماله بسرعة وقبل ساعتين لأن المندوبين ارادوا حضور مباراة ايطاليا وكوريا الجنوبية.

اما المباراة العالمية ضد العار فلا تجذب الكثيرين، وبالتأكيد ستضيع صرخة البروفسور مونتانييه الداعية الى اعلان حرب عالمية ضد «الايدز»!