قيم الإنسانية الجديدة؟

TT

يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشال سر في نص هام قدمه لحوارات اليونسكو، نشرته صحيفة «لموند» 5/7/02 الى اننا نمر حاليا من مفهوم للانسانية انحسر واستنفد اغراضه، هو المفهوم المتمحور حول المركزية الغربية، الى مفهوم جديد بدأ يتشكل انطلاقا من اتجاهات الثورة العلمية الراهنة ومقتضيات عصر العولمة. وتقوم فكرة الانسانية بالمعنى الجديد على مرتكزين محليين:

اولهما علمي يقدم «حكاية كبرى» صالحة للكون ذاته، للحياة عموما، تشرح كيف انبثق الانسان من المادة اللامتشكلة (النظرية البيولوجية ـ الحفرية)، اما ثانيهما فهو الاطار التعددي المختلف والكثيف للثقافات الانسانية في تنوعها وتجاورها وقدراتها على التواصل والتعايش. ويرى سر ان تقنيات الاتصال الجديدة توفر للبشرية، بعد انهيار المركزيات الثقافية، فرصة غير مسبوقة للتداخل والامتزاج والتحاور لصياغة كونية انسانية حقيقية، بدلا من الاتجاهات الكلية المفروضة باسم المقتضى الانساني الكوني.

ويعبر الفيلسوف الفرنسي المرموق بهذه الافكار عن جانب من الحوار الواسع والمحتد الدائر حاليا في الساحة الفكرية الغربية حول المنظومة القيمية في عصر العولمة، الذي شهد انحسارا مضاعفا لدائرة المعنى التقليدية المتمحورة حول الدين المسيحي وتراثه الثيولوجي ودائرة المعنى الحديثة المرتبطة بعصر التنوير والحداثة.

وكنا قد اشرنا في هذه الصفحة الى جانب من هذا الحوار، هو ذلك المتعلق بالنزاع حول تركة الانوار بين التقليد الوفي للنقدية الكانطية والتقليد النتشوي الرافض لها.

وليس من همنا في هذا الحيز الرجوع الى ذلك الحوار الثري الذي يشغل وجوه الفلسفة والفكر في الغرب، وانما سنكتفي بالتساؤل حول المضمون القيمي لفكرة الانسانية بالمعنى الذي ذكره سر، اي بعبارة اخرى ما هو النسق الثقافي المشترك لفضاءات انسانية غدت وثيقة الترابط، متحدة المصير؟

قد تبدو الاجابة على هذا السؤال سهلة واضحة، تتلخص في الاحالة الى مرجعية القرارات والمؤسسات الدولية، اي النصوص والتشريعات التي يتأسس عليها النظام الدولي، ليس فقط من حيث الابعاد السياسية والاقتصادية، وانما كذلك الاعتبارات الثقافية والمجتمعية. وقد اثبتت تجربة العقد الاخير ان هذه الديناميكية قادرة على اجتياز خطوات سريعة في مجالات حساسة مرتبطة بالخصوصيات الثقافية كما هو شأن موضوعات المرأة والاسرة وحقوق الانسان.

ولا مناص من الاعتراف بانبثاق نمط من الغطاء المرجعي الشامل غدا حاضرا وضروريا لضبط وادارة الاطار الترابطي الانساني المشترك، بيد ان هذا الغطاء لا يتجاوز حدود ترتيب توازنات قائمة، ولا يقدم قاعدة قيمية حقيقية ينعقد عليها الاجماع. فإذا تجاوزنا المعطيات الاستراتيجية واطار العلاقات الدولية (وهو مجال توازن القوة لا اثر للقيم فيه)، وصرفنا النظر عن الرهان الاقتصادي (الذي خرج عن امكانات التحكم بفعل عولمة رأس المال وتوحد المنظومة الرأسمالية)، اتضح لنا ان مفهوم «الاسرة الانسانية» لا يزال وهما كبيرا.

صحيح ان مقاييس الحداثة قد نفذت لكل الثقافات والحضارات، وغدت نمطا من الارث المشترك، بيد ان هذه المقاييس لا تتجاوز في التحقق الفعلي عناصر في المتخيل وادوات اصطلاحية في سوق المعنى. ولذا فالتمايز بين الثقافات والمجتمعات، يبرز للعيان عند التحديد الموضوعي والعيني لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان وتحرير المرأة.

وقد اثبتت تجربة المؤتمرات الدولية التي عقدت في السنوات الاخيرة لبحث المواضيع المذكورة هذه الحقيقة البادية للعيان. والسؤال المطروح هو: هل استنكاف الفضاءات الثقافية غير الغربية عن استبطان واعتماد المنظومة القيمية الحديثة مظهر عجز في الثقافة والنظم المجتمعية، ام هو دليل على عجز تلك المنظومة عن الانتشار والتمدد خارج ارضية نشأتها الغربية؟ لا شك ان السؤال عصي ومعقد وليس هذا مجال تناوله بالعمق المطلوب، وانما نكتفي بالاشارة الى ان المجتمعات غير الغربية التي سلكت النهج التحديثي سارت في ثلاثة اتجاهات متباينة:

اراد بعضها اعتماد النموذج التحديثي الاوروبي بآلياته التقنية والتنظيمية دون نسيجه القيمي. واراد البعض الآخر اعتماد النموذج من حيث فاعليته الاداتية ونظمه الاجتماعية والسياسية مع استبطانه في القاعدة القيمية المحلية.

اما البعض الثالث فقد اراد استنبات النموذج بثقافته وقيمه وآلياته التقنية والاقتصادية ونظمه المجتمعية.

وباستثناء النموذج الياباني، الذي كثر الحديث حوله (ولنا اليه عودة)، فإن الخيارات المطروحة لم تنجح في اي من المجالات الحضارية الاخرى، حتى ولو مكنت من نجاحات جزئية: النظام الديمقراطي والتصنيع العسكري في الهند، النمو الاقتصادي والصناعي في الصين، تجربة النمور الآسيوية.

ونلاحظ في التجارب المذكورة ان المكاسب التي تحققت لم تتجاوز الاطار السياسي او الاقتصادي، ولم تصل للنظم القيمية التي يبدو انها تتجه بصفة متزايدة للانكفاء على الهويات الخصوصية.

دون ان نطمح الى المغامرة بتقديم اجابة موضوعية على اشكال عوائق التحديث خارج الفضاء الغربي من المنظور القيمي، نكتفي بالقول ان مأزق المشروع التحديثي الجنوبي راجع الى كون دينامية التحديث قد فقدت في مهادها الاصلي (اي في الغرب) حوافزها القيمية في منتصف القرن المنصرم لاسباب فكرية وظرفية (اشرنا اليها عند حديثنا سابقا عن انحسار الحكايات الكبرى وانهيار الانساق الكلية)، وتلك هي الحقبة نفسها التي استؤنفت فيها الجهود النهضوية والتحديثية في العديد من المجتمعات (بما فيها مجتمعاتنا العربية) بعد تصفية الحالة الاستعمارية التي قد ساهمت ضرورة في افقاد هذه المرجعية القيمية زخمها ومشروعيتها.

(ولنا عودة للموضوع)