الطريق الوسطى هي الجادة

TT

تعيش النخب السياسية والحزبية الإيرانية في هذه الأيام، أجواء من التوتر والاستقطاب السياسي لا تحسد عليه، وهي أجواء تعيد إلى الذاكرة الأيام الخمسة من صيف عام 2000، التي هزت طهران.

وإذا كانت أجواء ذلك الصيف الساخن، قد عكست درجة حرارة الشارع الطلابي آنذاك، فإن أجواء صيف عام 2002 الملتهبة، تعكس درجة حرارة الشارع السياسي الحزبي، الذي يتقاسم حصص مطبخ صناعة القرار الإيراني الأعلى، وهو أمر لا شك يجعل من الوضع الجديد أكثر إثارة وأهمية، حتى وان بدا ليس خطيراً من الناحيتين الأمنية والعملياتية.

فإن تنزل فئة من الطلاب إلى الشارع، سواء كانت على حق أم على باطل، وتبدأ بتكسير وتخريب بعض مظاهر أو رموز السلطات الحاكمة، ومن ثم تجابه بالضرب والشتم، أو القمع والاعتقال من قبل عناصر الشرطة، أو مخابرات النظام، تحت مظلة الدفاع عن مصالح النظام العامة، أمر يمكن فهمه وإدراكه واستيعابه في العالم المعاصر، حتى وإن لم نقبله، لا سيما بعدما صار جزءا لا يتجزأ مما بات مسمى بالحياة السياسية والحيوية المطلوبة للمجتمعات، بل وأحياناً جزءاً من الحقوق الديمقراطية أو الممارسات التي تتميز بها المجتمعات التعددية.

لكن أن يتصاعد هذا التحدي ويتفاقم الاستقطاب السياسي والحزبي إلى درجة «التمترس» و«التخندق» المسلح بشهادات «التكفير والتفسيق» أو «الطرد المتبادل» بين الأطراف الرئيسية المتقاسمة لاسهم صناعة القرار في بلد ما، لا سيما في بلد لا تزال فيه التجربة طرية العود، اضافة إلى كونها محاطة بكم هائل من التحديات الخارجية، فهذا أمر يستغربه، ليس فقط اصدقاء هذا البلد، بل وحتى خصومه.

على أية حال، فإن ما يحصل هذه الأيام في إيران من تراشق «بالعيار الثقيل» من جانب طرفي الحكم المتقاسمين للسلطة في البلاد، دفع ولا يزال العديد من المراقبين والناظرين الحياديين إلى الاستغراب الشديد.

لكن في هذه الأثناء، ثمة من يقول: بأن طرفي الصراع السياسي ـ الحزبي اللذين اصطلح على تسميتهما باليمين المحافظ واليسار الإصلاحي مجازاً، إنما يفتقران إلى ما يلي:

أولاً: يفتقران إلى الحسّ السياسي اللازم الذي يؤهلهما لإدارة شؤون البلاد لوحدهما.

ثانياً: يفتقدان إلى فهم للأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة بهما من كل جانب، والتي تدعو إلى اليقظة والحذر المضاعفين.

ثالثاً: يفتقدان إلى الإدراك الواقعي والحقيقي لحالة الشعب العامة واحتياجاته ومتطلباته الأساسية الملحة، والتي ليس من بينها المسائل الخلافية الحادة التي يتصارع الطرفان عليها أكثر من غيرها.

رابعاً: يفتقدان إلى المعرفة الشفافة بروحية الأكثرية الشعبية «المسالمة» و«المعتدلة»، والتي تبحث عن لقمة العيش الكريم المغمسة بالعدالة، والبعيدة عن حكم امتيازات أبناء الذوات سواء كانوا من اليمين المحافظ أم من يساره الإصلاحي.

خامساً: يفتقدان إلى التقوى اللازمة في العمل السياسي في ظل الحكم الديني والتي تتطلب فيما تتطلب عدم استخدام الدين والقيم الثورية والإنسانية ولافتة الشعب والجماهير من أجل تلبية المطالب وتحقيق المآرب الحزبية قبل أي شيء آخر.

من هنا، فإن محللين سياسيين محايدين يستغربون أن تبقى الأكثرية الشعبية بعيدة عن التفاعل مع هذا الاستقطاب «الانتحاري»، لا سيما في ظل بروز تحليلات تميل إليها مصادر إصلاحية معتدلة ومستقلة مفادها بأن «جبهة» مجتمع الأكثرية الصامتة في تزايد مستمر في ظل تنامي الممارسات الحزبية والفئوية لكلا الجناحين المتنافسين.

ويستغرب هؤلاء المحللون كيف وقع الجناحان الرئيسيان المتقاسمان لأسهم مطبخ صناعة القرار، في هوة هذا الصراع المدمر، ولا يدري أحد حتى الآن من وقع في فخ الآخر أولاً!.

والقضية باختصار تتمثل في اندفاع الذراع «المدني» أو «الافندي» إذا جاز التعبير في حملته السياسية ضد المحافظين ليضرب جهاز المرجعية، والمؤسسة الدينية التقليدية، أو الحوزة العلمية، متجاوزاً بذلك كل الخطوط الحمر، بحجة الدفاع عن نظرية تجديد الفكر الديني وضرورة تطويره وفصله عن جهاز الدولة والسلطة، حتى لا يتحول إلى أداة بيد الأجهزة!.

بالمقابل، اندفاع العديد من أذرع الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية في معركتهم السياسية ضد الإصلاحيين ليضربوا النخب السياسية المثقفة الأكثر التصاقاً بالثورة وقيم الإصلاح الديني حتى الآن، وذلك بحجة الدفاع عن كرامة علماء الدين وكرامة الشعب والأمة وقيم الدين نفسها!.

وفي الحالتين يعتقد المحللون السياسيون المستقلون بأن الأمر سيقود لا محالة إلى مزيد من الاضعاف لدعاة الحكم الديني، وسيكون الرئيس محمد خاتمي ربما أكثر المتضررين، باعتباره الداعية الأبرز إلى إمكانية التوفيق والجمع بين الديمقراطية والدين، وبالتالي بين أرباب الفكر السياسي الحر المتطور وأرباب الحكم الديني المتحرر.

ثم ان الأكثرية الشعبية التي باتت مهمشة للأسف الشديد، بسبب هذا الاستقطاب الحزبي الحاد، سوف لن تغفر لأحد من المدنيين أياً كانت مرتبته الحزبية والثورية وتاريخه النضالي أن يشطب فكرة «التقليد» واللجوء إلى علماء الدين لفهم دينها ودنياها، كما أنها لن تغفر لأحد من رجال الدين أياً كان أن يشطب من بين صفوفه المناضلين أو يفسقهم أو يخرجهم من الملة والدين بسبب موقف انتقادي هنا أو هناك.

مع كل يوم يمر على الشعب الإيراني، يكتشف بحسه الخاص وشعوره المرهف، بأن اليمين واليسار في ضلال، وأن الطريق الوسطى هي الجادة. ومن لا يريد التصديق عليه أن يدرس بعناية تجربة الرئيس محمد خاتمي المستمرة فقط بدفع واستمرارية إمساك العصا من الوسط.