عبيد التوتاليتارية

TT

ميزة الكتاب الهام «اميركا التوتاليتارية» لميشال بوغنون ـ موردان انه لم يصدر بعد الحادي عشر من سبتمبر ـ ايلول وبالتالي من السهل ان تخرجه من قائمة تلك الكتب السريعة الرخيصة التي تتبنى وجهة نظر «مع أو ضد»، فقد صدر ذلك الكتاب قبل الكارثة الأميركية بأربع سنوات بالفرنسية وفي العام التالي بالانجليزية، وها نحن نراه اليوم بالعربية بترجمة خليل احمد خليل ومعه مقدمة الطبعة الانجليزية التي كتبها مؤلف الملف السري لحرب الخليج الثانية بيار سالينجر.

وللكتاب عنوان فرعي يوضح قصده، والعنوانان الرئيسي والمفسر هما على الشكل التالي:

«اميركا التوتاليتارية... الولايات المتحدة والعالم: إلى أين...؟» وان كنت تريد زبدته باختصار فالكتاب يحذر من خطر اميركا على الانسانية جمعاء ليس من الناحية السياسية فحسب انما من النواحي الثقافية والفنية، بل والمطبخية، فخبرة ثلاثة آلاف سنة من التطور البشري في مجال الطعام والمطبخ المنوع بكل بهاراته ووصفاته وأساليبه تكاد تسحقها عجلات «العم مكدو» وقريبيه صاحب القبعة الملونة وصاحب البابيون مربي الدواجن، وناتف ريشها.

سياسياً اصبح الاميركيون هم شعب الله المختار، كما يؤكد ذلك الجهد الاكاديمي المحترم، وما اسرائيل الا وكيل محلي صغير من وكلائهم، فهم يبنون كما يؤكد الكتاب الموثق بالأرقام والتحليلات الذكية المستندة كنز من المعلومات «صهيون الجديدة» التي بدأت بالدائرة الأولى اميركا الشمالية ثم امتد نفوذها الى اميركا اللاتينية (الدائرة الثانية) وكانت الحرب العالمية الثانية مناسبتها لاحكام السيطرة على الدائرة الثالثة (اوروبا) والآن جاء الدور على بقية الدوائر التي تسقط تباعا ودون كبير عناء، لأن اميركا في مرحلة تفكيك النفوذ الأوروبي على العالم الثالث كانت ترث آليات السيطرة من القارة العجوز وتعمل على تسويد وجهها باستمرار بحيث تذهب المكاسب لأميركا واللوم لأوروبا.

واوضح مثال على ذلك ـ حسب الكتاب ـ الشرق الأوسط، فحرب الخليج الثانية تقدم البرهان الساطع على التلاعب بالعقول وافتعال الازمات، فاميركا هي التي اعدت مسرح الحرب، وحرضت عليها ثم حصدت نتائجها بمبيعات فلكية للسلاح بلغت 197 مليار دولار، وسيطرة سياسية كاملة على المنطقة جعلت الحليف الاوروبي في حرج امام حلفائه السابقين الذين فقدوا الثقة بقدرته على لعب اي دور في السياسة الدولية.

والسيطرة الأميركية على اوروبا لم تأت من فراغ أو بمحض الصدفة فهي نتاج ايديولوجيات متوارثة منذ عهد المؤسسين الأوائل يعتقد اصحابها ان الله اختارهم لرسالة كبرى، فهم ومنذ خطاب جورج واشنطن الوداعي عام 1796 يرفضون التحالف مع اي طرف لا يعترف بما يسميه الكتاب «الأمركة الربانية» التي عملت ببطء وثبات على اجتياح الكوكب الأرضي لنشر وتوسيع رقعة مصالحها الاقتصادية رافعة الشعار الديمقراطي ومنفذة لأسوأ الأساليب التوتاليتارية.

ومع هذا الانتشار اندثرت هويات، وثقافات، ولغات وانتبهت اوروبا فجأة الى انها مستهدفة، فحاولت ان تقاوم منذ عهد ديغول الذي اقصاه روزفلت عن اي دور في ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما لم تغفره اميركا للجنرال الفرنسي واحفاده انهم حاولوا تجسيد مبدأ السيادة الوطنية في وجه الهيمنة الاميركية، ففي حرب الخليج الثانية تم احتقار المشاركة الفرنسية واعطيت دورا هزيلا وثانويا وكذلك كانت تجري معاملة معظم دول اوروبا باستثناء بريطانيا، والمشكلة مع اوروبا انها كلما حاولت الانفلات من الهيمنة الاميركية طوقتها اميركا بقيد جديد، ففي ايام الحرب الباردة الزمتها بمواقفها وبعد ان انتهت تلك الحرب وسعت حلف الاطلسي واضافت دول اوروبا الشرقية وروسيا اليه كي تمنع تبلور موقف اوروبي موحد داخل ذلك الحلف الذي كان اداة هيمنة واضحة منذ تشكيله.

ان الشعوب الكبرى لا تحب ان يعطيها الدروس احد كما قال بيار سالينجر في مقدمته لكتاب ميشال بوغنون ـ موردان ومع ذلك، فهي مضطرة لقراءة هذا الكتاب لتدرك اين تختلط الديمقراطية بالتوتاليتارية. أما اوروبا، فهذا الكتاب بالنسبة لها صرخة تحذير من ضياع هويتها فلكي لا تتحول الشعوب الاوروبية الى مستهلكين شبعانين وجبناء عليهم ان يعملوا بوصية الفيلسوف جان ماري بنوا الذي حذرهم منذ الخمسينات بأن «الحتمية تتناغم مع العبودية» وان اقتناعهم بحتمية الهيمنة الاميركية سيحولهم كما حول آخرين الى مجرد عبيد يشبعون، نعم لكن ليس لهم في صياغة مستقبلهم أي خيار أو قرار.