خواطر 23 يوليو (1) أين يبدأ الشرق

TT

«الشرق يبدأ من القاهرة»، قال غوستاف فلوبير، منتصف القرن التاسع عشر، وهو يتطلع الى النيل يجري على امتداد الافق ويأتي من عمق افريقيا. وكانت القاهرة قد تخطت عامها الالف، وهي تنبسط على الضفتين وتتمدد وتعج يوما بعد آخر بالمزيد من القادمين من الارياف والمدن الاخرى، الى «مصر». فمن كان ذاهبا الى «مصر»، سواء كان بشرا او عربة او قطارا، فانما هو ذاهب الى القاهرة.

غالبا ما كان الشرق المعاصر يبدأ حيث شاهده فلوبير، في القاهرة. وفي القاهرة بدأت في 23 يوليو 1952 مرحلة جديدة من التاريخ العربي. مرحلة عرفت ذل البريطانيين والفرنسيين والاسرائيليين العام 1956 في قناة السويس، وشهدت بعد 11 عاما اسوأ هزيمة عربية منذ سقوط فلسطين العام 1948. مرحلة خرج خلالها الاستعمار القديم من العالم العربي، مهزوما في بور سعيد وعدن وعنابة، وحل مكانه قطبا الحرب الباردة في اشد اراضي المواجهات خصوبة. مرحلة عرف فيها العالم العربي ازهى طموحاته القومية وعرف خلالها اسوأ انواع الحروب والصراعات الاقليمية. مرحلة اقامت فيها مصر السد العالي وروضت النيل العملاق وروضت الغرب المعارض، وعرفت فيها مصر اصعب مستويات المعيشة. مرحلة حاولت خلالها القاهرة الناصرية ان تضم اليها كل العالم العربي، من المحيط الى الخليج، ولذلك لم تفرق بين عرش محمد الخامس او بين رئاسة الحبيب بورقيبة الجمهوري القادم من سجون فرنسا. ولم تفرق بين بعثيي سورية والعراق وبين الامام يحيى في اليمن. ولم تفرق بين الشيوعيين وبين الاخوان المسلمين، ففتحت امامهم ابواب السجون نفسها. وفيما هي تندفع من المحيط الى الخليج او من الخليج الى المحيط، اخفقت في ادراك الفارق بين بلد شرايينه سياسية مثل سورية، وبين اليمن الذي كانت تصله صحيفة «الاهرام» متأخرة ثلاثة اشهر. ولم يكن يصل منها سوى نسخة واحدة: نسخة الامام.

كانت 23 يوليو تاريخا مكثفا متزاحما متدافعا في كل اتجاه. ولا يفيد الان اطلاقا ان نطرح السؤال التقليدي المتأخر ابدا والعبثي على الدوام: ماذا لو انصرفت ثورة 23 يوليو الى بناء مصر وحدها او الى بناء مصر اولا؟ ماذا لو لم يذهب جمال عبد الناصر الى افريقيا مقاتلا في الكونغو؟ ماذا لو لم يقرر ان يحارب كل الغرب دفعة واحدة؟ ماذا لو لم يرَ في نفسه نهرو آخر يريد ان يوحد عموم الهند؟ ماذا لو انه لم يقتنع بانه سوف يكون قادرا، مثل صديقه المارشال تيتو، على الخروج من فكي ستالين وماوتسي تونغ معا، ثم الوقوف في مواجهة الاثنين معا والاحتماء بفكرة خيالية جديدة شديدة الجاذبية، تدعى «عدم الانحياز»، او «الحياد الايجابي»، او «القوة الثالثة»، او الكتلة «الافرو ـ آسيوية» ماذا لو؟ التاريخ لا يقبل الافتراضات الماضية ويسلم فقط بالافتراضات الآتية. والسياسة حساب لكنها ليست علم الحساب. والحدث الكبير تيار كبير يجرف الناس والرجال والقادة من دون تمهل او تأمل. وعندما تمهل جمال عبد الناصر من اجل ان يتأمل، كانت 1956 قد تداخلت في 1967 وكان جلاء الانكليز قد تداخل في احتلال الاسرائيليين، وكانت افريقيا قد انسحبت الى داخلها وآسيا قد اصبحت في قبضة النفوذ الاميركي وكان الموفدون الاميركيون قد بدأوا بالوصول الى بكين لتناول الشاي بالياسمين مع التشرمان ماو، في قلب «المدينة المحرمة».

تجري محاولات كثيرة الان لاعادة تأريخ 23 يوليو. وبعضها يقوم بها اهل اختصاص او شهود كبار او مؤرخون. وليس لدي ما اضيف او اقول سوى بعض الخواطر الشخصية مثل اي مواطن عربي في جيلي، وليست لدي احكام ولا تحليلات سوى تلك المتابعة لقضايا عاشت بيننا وعشنا فيها طوال خمسة عقود، فتحكمت بعواطفنا وعقولنا ومشاعرنا، ونامت واستيقظت على وسادتنا، وتناولت معنا الطعام، واغرقتنا في القلق وفي الامل وفي الحزن. ووسط كل هذه القضايا، لزمن طويل، كانت مصر بحجمها الهائل وظلها الطويل في الفن والغناء والسينما والادب والصحافة والناس. ففي مرحلة ما، لم يكن الشرق يبدأ من القاهرة بل كان الشرق هو القاهرة. هي التي تأخذه الى حيث تشاء. هي تضحكه وهي تبكيه. وهي تأخذه على ضفاف النيل في شم النسيم. والى اللقاء