وهم الإيجابيات في خطاب بوش

TT

بعض المثقفين عمدوا الى جلدنا وتقريعنا لأننا لم نر «الايجابيات» في خطاب الرئيس بوش، الذي اعلنه بخصوص القضية الفلسطينية في اواخر الشهر الماضي، اتهمونا بالانفعالية وعدم الموضوعية بالافتقاد الى القراءة الواعية التي تتجنب الانتقاء واسلوب «القص واللصق» وتلك «الايجابيات» التي يقصدونها على رأسها أمران ركزوا عليهما هما: حديث الرئيس الاميركي عن دولة فلسطينية مستقلة، وحديثه عن انسحاب حتى حدود يونيو (حزيران) 1967، وقد اعتبر احد كتاب «الشرق الاوسط» ـ عدد 6/7 ـ ان النقطتين تمثلان «نقلة نوعية مهمة في السياسة الاميركية».

ولأنني احد الذين انتقدوا خطاب الرئيس الاميركي، على غير صفحات «الشرق الأوسط» فقد وجدت ان حكاية «الايجابيات» التي ترددت في اكثر من نص منشور في هذه الجريدة تحتاج الى تفنيد ورد، واستأذن في التمهيد لذلك بملاحظتين هما:

ـ اننا حينما نتحدث عن «قراءتنا للخطاب»، فينبغي ان نتفق على من نحن، وهل المقصود هو الحكومات أم المثقفون، لأنني قرأت احد نصوص التقريع، قد استند الى ان الحكومة السورية انتظرت وقتا طويلا نسبيا حتى اعلنت انه ثمة «ايجابيات» في خطاب الرئيس بوش، واعتبر الكاتب ان السبب في ذلك «التقاعس» هو «قراءتنا الانفعالية لمواقف الآخرين، وعدم القدرة على القراءة الشاملة وليست الجزئية».

واراد الكاتب ان يوحي لنا ان الحكومة السورية سكتت على الخطاب أو انتقدته بسبب تلك «القراءة الانفعالية»، لكنها حين عقلت الامر وهدأت وتمكنت من ان تقرأه «قراءة شاملة»، فإنها اكتشفت «ايجابياته». وقد انتقدنا جميعا بسبب هذا الموقف، وتمنى لو اننا تمكنا بدورنا ووضعنا ايدينا على «الايجابيات» التي اشار اليها.

وانا هنا اريد ان أميز بين مواقف الحكومات والمثقفين. فالأولى لها ضروراتها وحساباتها التي تضطرها الى السكوت او حتى المديح او المجاملة احيانا، وتجنب الصدام مع القوى الكبرى لسبب أو آخر، ثم الالتفاف على الكلام، ثم اثارة الشكوك حوله من خلال فكرة «الاستفسارات» وطلب الايضاحات، وهو ما لجأت اليه بعض الحكومات العربية في تعاملها مع الخطاب المذكور، أما المثقفون فلا تحكمهم تلك الضرورات، وانما خياراتهم اوسع بكثير بحكم افتراض تعبيرهم عن المبادئ، والقيم الاساسية، وليس عن الحسابات والمصالح السياسية في هذه الزاوية فإن موقف الحكومة السورية او غيرها لا ينبغي ان يكون حجة علينا، لأن من المثقفين او حتى السياسيين من قرأ الخطاب قراءة واعية وشاملة ولم يجد فيه ايجابية تذكر، وانما وجده كارثيا بكل المعايير.

الامر الثاني اننا نفهم القراءة الواعية والشاملة بحسبانها تلك التي تلحظ المجرى الاساسي له وتعرف اين يصب، وما هي المقاصد الكلية التي يحققها. اما القراءة العاطفية والمبتسرة فهي تلك التي تتعلق بعبارة هنا او هناك في النص، فتخرجها عن سياقها، وتجردها من شروطها، ثم تتعلق بظاهرها وتعتبرها انجازات او تحولا نوعيا، في حين انها بعد التجريد تصبح وهما كبيرا يحمل الخطاب اكثر مما يحتمل، وذلك يضعنا مباشرة امام الايجابيتين المزعومتين اللتين الح عليهما بعض الكتاب: حكاية الدولة الفلسطينية، ومسألة الانسحاب الى حدود عام 1967.

ان خطاب الرئيس بوش، نصه وروحه، ينطلق من الادانة المطلقة للفلسطينيين، ولا يعتبر ما يجري صراعا بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويتجاهل تماما حقيقة الاحتلال كمصدر للتوتر، ولكنه يتعامل مع ما يجري على ارض فلسطين باعتبار انه صراع بين الاسرائيليين والارهابيين، ومن ثم فإنه يرى المشكلة في الارهاب وليس في الاحتلال. وبعد ان اثبت الرئيس الاميركي رؤيته تلك للصراع، تحدث عن الدولة الفلسطينية، كيف؟

لقد وضع عدة شروط للقبول بتلك الدولة، اهمها اعادة انتاج الشعب الفلسطيني وقيادته، فتحدث عن قيادة جديدة ومؤسسات جديدة وترتيبات امنية جديدة مع جيرانه، بعد ذلك «فإن الولايات المتحدة ستؤيد قيام دولة فلسطينية تكون حدودها وجوانب معينة من سيادتها ـ مؤقتة ـ الى حين الاتفاق عليها في اطار تسوية نهائية في الشرق الاوسط».

لقد ربط الرئيس بوش عملية قيام الدولة «المؤقتة» التي اقترحها بالتوصل الى تسوية نهائية مع الاسرائيليين، اي ان الامر مرتبط بحل كل المسائل العالقة بين الطرفين، ونحن نعرف استحالة حلها في ظل موازين القوة الحالية التي تدفع اسرائيل الى الاصرار على فرض رأيها وتحقيق التسوية التي تراها ملبية لمصالحها وتطلعاتها، مع التجاهل التام لحقوق ومصالح الفلسطينيين، وبهذه الطريقة فإن الرئيس الاميركي لم يقدم حلا من اي نوع، وانما وضع شروطا شبه مستحيلة لامكانية الحل الذي لم يتطرق اليه من أي باب، بل جعله متعذرا على نحو اطلق يد اسرائيل في ان تفعل ما تشاء باسم الدفاع عن نفسها ضد الارهاب الفلسطيني.

والأمر كذلك، فلا يكفي ان نهلل ـ باسم الموضوعية والرؤية الشمولية ـ لمجرد ذكر اسم الدولة الفلسطينية، وانما علينا ـ قبل ان نعتبر تلك الاشارة ايجابية أم سلبية ـ ان نتحقق اولا من شروط اقامة تلك الدولة، ومن امكانية تطبيق تلك الشروط.

اذا احتكمنا الى ذلك المعيار وادركنا الشروط التعجيزية التي وضعها الرئيس لاقامة الدولة المؤقتة، فسوف نكتشف ان الكلام عن الدولة لم يكن اكثر من اشارة للخداع والتمويه، تستهدف في حقيقة الامر اتاحة الفرصة للاسرائيليين للتمكين من الارض المحتلة واعادة تشكيل الحقائق فوقها، على النحو الذي يخدم الاحتلال ويكرسه. وهو ما لا نستغربه طالما ان الرؤية التي حكمت الصراع في ادراك الرئيس الاميركي انه بين فلسطين ارهابيون وبين اسرائيل ابرياء ومجني عليهم.

مسألة الانسحاب الى حدود عام 67، التي اعتبرها البعض ايجابية ثانية، «وتحولا نوعيا» في السياسة الاميركية، فهي اكذوبة اخرى، لا تمت للايجابية بصلة، فقد اشار الرئيس الاميركي حقا الى انهاء الاحتلال الاسرائيلي الذي بدأ في عام 67، باعتباره اهم عناصر التسوية المرجوة، وتحدث عن التسوية التي يفترض ان يتم التفاوض عليها بين الاطراف على اساس قراري مجلس الامن رقم 242 و338، لكنه لم يذكر ان الانسحاب سيكون وراء خطوط 5 يونيو، كما توهم المتحدثون عن «الايجابيات» وكان واضحا في انه سوف يكون «لحدود آمنة ومعترف بها». ولا مشكلة في الاعتراف بطبيعة الحال، غير ان مفهوم «الحدود الآمنة» يحقق التصور الاسرائيلي بالكامل، بل هو مصطلح اسرائيلي بالاساس، يعبر عن الحد الاقصى لمتطلباتها، ويلغي تماما فكرة الحديث عن خطوط 5 يونيو، ويخضع مسألة الانسحاب لتقدير النخبة العسكرية الاسرائيلية وحدها.

ما قاله الرئيس بوش في مسألة الدولة والانسحاب لا غرابة فيه، لأنه متسق مع نظرته لطبيعة الصراع واعتباره الاسرائيليين «ضحايا» للارهاب الفلسطيني. لكن الغريب والمدهش هو فيمن اعتبر اشاراته تلك «ايجابيات» وفيمن يرى من انكر وجود تلك الايجابيات المزعومة بالانتقائية والانفعالية واعتماد اسلوب «القص واللصق» وهي صفات لا تنطبق في حقيقة الامر إلا على اولئك الذين يجتزئون الكلام وينتزعون المصطلحات من سياقها، لكي يتعلقوا بها ويطنطنوا بالايجابيات الكامنة فيها، في حين انها مجردة تماما وفارغة المضمون.

من المغالطات التي وقع فيها البعض عن الايجابيات المزعومة قولهم ان الاسرائيليين اعتبروا خطاب بوش «كارثة»، ـ بسبب ايجابياته!! ـ لكنهم تعاملوا معه تعاملا سياسيا وتحركوا لتفريغه من مضمونه وللحيلولة دون تحويله الى برنامج واقعي للسلام. وهذا ادعاء لا اساس له ولا دليل عليه، لأن الاغلبية الساحقة رحبت بالخطاب ترحيبا حارا، والذين انتقدوه من المعلقين والمثقفين الاسرائيليين لم يبنوا انتقادهم على تلك الايجابيات المزعومة، وانما انتقدوه لأنه اجهض امكانية تحقيق السلام، واطلق يد شارون وفريقه في اجتياح الضفة الغربية واعادة احتلالها، ومن ثم تصعيد فتح الباب واسعا لاستمرار المواجهة المسلحة والعودة بالصراع الى ما قبل اوسلو.

ان الحديث عن ايجابيات في خطاب الرئيس بوش يغفل تماما انه منذ الاسطر الاولى للخطاب حدد للجميع اين يقف، واي قارئ عادي للخطاب ما ان يقع على تلك الاسطر حتى يدرك انه لن تكون فيه من وجهة النظر العربية ايجابية واحدة، الامر الذي يحيرنا، ويدعونا الى تصنيف ما نقرأه في صحفنا عن حكاية الايجابيات باعتباره تعبيرا عن وجهة نظر اخرى غير عربية.