إنهم يضطهدون الشمس

TT

حملات التحذير من الشمس ومضارها تبث رعباً هو أقوى وأنجع، في مفعوله، من تلك التي سبقتها بسنوات ضد التدخين وما تزال نتائجها هزيلة وكالحة. فالشمس لا تضرب فقط، إنها تقتل أيضاً، والعلاقة معها تحتاج إلى وساطة الكريمات ومساعدة الزيوت ومستحضرات، لها من الحيلة والتنوع ما يملأ رفوف المحلات، وجانباً واسعاً من أجنحتها، هذا إضافة إلى النظارات والقبعات والشماسي. والسنوات المقبلة لا بد ستشهد قفزات نوعية تحكم صلتنا بالشمس وكيفية لقائنا بها، وذلك كله ليس عائداً لارتفاع حرارة الأرض بسبب الغازات السامة وثقب الأوزون اللعين وحسب، وإنما لأننا بتنا نرى بعيون الآخرين الملونة التي تعاني صعوبة التأقلم مع إشعاعات الشمس الفتية، فهي نظرة باردة، مستوردة ومستهجنة.

فابن الشمس كان يعرف بفطرته وتداول عاداته كيف يحتمي من القيظ، وكيف يتصالح مع اللهيب، دون أن يقرأ اللغات الأجنبية والإرشادات الطبية. ويحكى عن الهنود أنهم كانوا يسخرون من محتليهم أيام الاستعمار ويقولون: «ان الكلاب والإنجليز وحدهم يخرجون في شمس الظهيرة»، فأهالي المناطق الحارة لجأوا إلى القيلولة تفادياً لنار الهجير، وغطوا رؤوسهم رجالاً ونساء، وشيدوا من المباني ما يؤكد عبقرية الإنسان التلقائية في التعاطي مع مناخه.

ومنذ باتت الموضة، في البيئات على اختلافها غربية، صغرت شبابيك البيت العربي وتقزّم حجم أبوابه وانخفض السقف، وتعثرت التهوية بما لا يطاق. فاستعان السكان، حتى في الدول المعتدلة الطقس بالمراوح، ومن بعد صار يصعب العيش من دون مكيفات في أيام لا تخلو من عذب النسمات. ومن مساوئ التقليد الأعمى ذاك الحماس الجنوني الذي دفع بالسمر لطلب «البرونزاج» فأصيب البعض بالاسوداد، متناسياً نصائح الجدات، وخانه بريق اللون النحاسي الذي يشاهده في الإعلانات. وبعد الهجمة جاءت النقمة على الشمس المتوحشة التي تحرق وتغدر، وأصبح الذهاب إلى البحر بعد العصر وعي مستحدث بدل أن يكون علماً متوارثاً.

والأمثال العربية تؤكد في غالبيتها تأقلماً ودياً عتيقاً، بين الإنسان والصيف، رغم الغياب التام لكل مستجد من المعدّات الصيفية التخفيفية «فتموز تغلي فيه الماء بالكوز» و«آب لهاب» لكن الأمثال تقول أيضاً «دخان يعمي ولا برد يضني» و«الصيف كيف والشتا شدة»، وثمة إحساس بأن «البرد والقلة سبب كل علة». أي ان الشائع عندنا، كان الخوف من البرد لا من الشمس. وهذا ما تفترضه البديهة. فالإنسان يحب ما يتعود، لذلك استعارت صفحات الأدب العربي من الشمس والحر «حمى الإبداع» و«نار الغيرة» و«لفحات السعادة» و«لسعات الحب» و«إشراق الجمال»، وهو ما لم يمنع ادباءنا من التأثر بما قرأوه حول جنون الشمس وتأثيراتها السلبية على الأمزجة الإنسانية في آداب أمم لا يغيب عنها الضباب ولا يتوقف المطر. فكتبت غادة السمان مطولاً عن الجريمة والشمس في الأدب، وكيف أن الحر يضخ العدوانية في الشرايين، وهو رأي لم يبرع في تصويره روائي كما فعل ألبير كامو في روايته الشهيرة «الغريب». إذ تكاد تكون الشمس عنده هي الشخصية الأولى، لأنها تحرك بطله كما تفعل الشياطين في النفوس المسلوبة الإرادة. فالرجل فرنسي يعيش في الجزائر وحمى الشمس هي التي تحركه، وتصل به إلى ما يشبه حالة من فقدان الوعي وإطلاق النار على رجل عربي وإحالته جثة هامدة. لكن الأمر لا ينتهي هنا، فالشمس كانت صارخة القسوة، تشوي خديه، والعرق يغطي جفونه والدماء تتدافع في شرايين رأسه. كل هذا الضغط الحراري الموجع، على شاطئ رملي تلتمع رماله حمراء تحت أشعة الظهيرة، جعل يده تضغط على المسدس وتطلق أربع رصاصات أخرى في جسد رجل ميت. ورواية كامو رائعة، وجمالياتها الفلسفية والتعبيرية تغري بتبني الرأي القائل بأن الشمس تدفع بأبنائها إلى عدوانية غير واعية. إلا ان المسألة هي أخطر من رمزيات أدبية تجلب المتعة للقارئ وتفتح أمامه فضاءات التخييل. فالنظريات العلمية والدراسات الاجتماعية في العقود الأخيرة بات بعضها يتهافت على إثبات حتمية العلاقة بين ارتفاع الحرارة وازدياد حالات العنف والعدوانية. وتبين من سجلات بعض الدول الغربية أن مناطقها الحارة ترتفع فيها نسبة الاعتداءات عن مناطقها الباردة. وبهذا المعنى، وبعد ان ضبطت الشمس متلبسة بالجرم المشهود، من المفترض ان تكون نسبة الجريمة في السعودية أو الإمارات مثلا أعلى بما لا يقارن عنها في إنجلترا أو الدول الاسكندنافية، وهو أمر تدحضه الوقائع على الأرض، لأن ثمة عوامل متشعبة تصنع من المخلوق البشري سفاحاً أو فيلسوفاً، ولا تستطيع الشمس وحدها أن تحمل وزر الانحراف السلوكي.

ولا نعرف إذا كان المطلوب، والحالة هذه، هو الدفاع عن الشمس لتبرئة ساحتها وساحتنا بمعيتها أم الأجدى هو الهجوم المضاد والتهجّم على الثلج، مثلاً، والبحث في انعكاسات البرد على مسالك أبنائه وصقيعية عواطفهم، ومن ثم القاء القبض عليه، قبل أن يفتي أحدهم بإبادتنا عن بكرة أبينا بحجة عدوانيتنا الشمسية، المثبتة «علمياً». وكل شيء بات جائزاً وممكناً في زمن البحث عن المصالح الكونية العليا.

حر الصيف أحدّ من السيف هذه الأيام، والناس هم، في الأحيان، أشبه بساعات سلفادور دالي الشهيرة، المتراخية الأطراف والعقارب، التي صارت علامة فارقة للوحاته، منهم بالقتلة المستفزين. والدماء تغلي في العروق من وطأة القيظ، وقد تنضح من الغيظ، لكن الغالبية تعرف كيف تحول شرايينها إلى خزانات للطاقة الشمسية التي تصرفها في مشاريع عشقية. فالصيف هو موسم الحرائق بامتياز وموسم العنب والبطيخ والارتواء. ولكن ماذا تفعل بمن يجهلون الشمس ولا يعرفون سوى وجهها المتجهم اللئيم، ودورها الإجرامي الحزين.

[email protected]