شيء من المنطق

TT

لا تفصلنا عن 11 سبتمبر سوى اسابيع قليلة. ومع اقتراب مرور عام على الكارثة لا تبدو خطورة ما حصل واضحة لدى كثيرين في العالمين العربي والاسلامي. وليس المقصود فقط اولئك النفر القليل الذين يصرخون ليل نهار ضد اميركا والغرب، يحللون ما يحلو لهم تحليله، ويحرمون ما يروق لهم تحريمه، مثل الذين عقدوا لتوهم مؤتمرا في لندن، رددوا خلاله ما ليس بجديد. انما المقصود ان خطورة ما حصل لا تبدو واضحة عند كثيرين في شرائح ومستويات مختلفة، لعل اهمها الشريحة التي تتحمل مسؤولية اساسية في تشكيل الرأي العام في الشارعين العربي والاسلامي. هذه الشريحة تضم مجموعتين لا تقل احداهما اهمية عن الأخرى، وهما شريحة الاعلاميين على اختلاف تخصصاتهم، وشريحة الموجهين التربويين، سواء في المدرسة والجامعة، او في المسجد ومنتديات الانترنت.

ان مراجعة لكيفية تناول هجمات 11 سبتمبر خلال الاشهر العشرة الماضية من جانب عدد غير قليل من الاعلاميين العرب المؤثرين في جمهورهم، سواء من خلال ما يكتبون او ما يذيعون ويبثون عبر الفضائيات، توضح ان غالبيتهم لا تلمس خطورة تأثير ما حصل وتداعياته. جلهم يبدو وكأنه يهز كتفيه قائلا: ثم ماذا، انها ليست نهاية الدنيا.

طبعا، الدنيا لم تنته. لكن العالم تغير. وهو ما لا يبدو مقبولا من جانب غالبية مؤثرة في الاعلام العربي. هناك بين اعلاميينا العرب من ردد بعد 11 سبتمبر، وما يزال يردد وسيظل يردد، ما مضمونه: ولماذا يجب ان يتغير العالم لمجرد ان اميركا ـ او العنجهية الاميركية ـ تلقت صفعة بهذه القوة؟ ربما تكمن المشكلة في اخضاع التحليل السياسي للهوى الشخصي. وفي الحقيقة ان القدرة على الفصل بين التحليل وبين الهوى نعمة لا تتوفر لكثيرين، ليس عند العرب وحدهم بل على امتداد العالم كله. وعلى سبيل المثال فان قليلين يستطيعون مقاومة اغراء السلطة حين يتولون مسؤولية القرار في جهاز اعلامي مؤثر، لتظل عندهم القدرة على التفريق بين ميولهم الذاتية وبين مسؤوليتهم تجاه الجمهور المتلقي لما يسوقونه من تغطية للأحداث.

وواقع الحال ان الامر ليس جديدا علينا. اذكر انني في منتصف الثمانينات سمعت اعلاميا مصريا لامعا كان له دوره الكبير والخطير اعلاميا وسياسيا حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، يستنكر بشدة استخدام كلمة (هزيمة) في وصف ما انتهت اليه حرب يونيو 67. لكن، كون الامر ليس جديدا لا ينفي خطأه ولا خطورته. ورفض جل الاعلاميين العرب التسليم بأن عالم ما بعد 11 سبتمبر مختلف تماما، لن يغير من حقيقة ان العالم تغير فعلا، بل ان التغيير طال حتى بعض الذين يعتبرون ان كل شيء مضمون الثبات والسكون، بما في ذلك قدرتهم على توظيف مواقعهم في مشاكسة اميركا كما يروق لهم، فاذا بنا نرى ادارة اميركية تحتج، ثم تعترض، ثم تحشر انفها، مثل بقية دول العالم الثالث، في ما ينشر ويذاع ويبث عبر اجهزة اعلام دول اخرى، ثم تخطو ابعد قليلا وتقرر دخول المعركة الاعلامية دخولا مباشرا وبأساليب جديدة.

واذا كان جل التناول الاعلامي العربي ما يزال منشغلا بالبحث عن تبرير لما حصل، من جهة، وبرفض القبول بحقائق ما بعد تلك الكارثة، من جهة ثانية، فان الاسلوب نفسه يبدو هو المسيطر على لغة معظم منابر المساجد في العالمين العربي والاسلامي، وعلى منتديات الحوار عبر الانترنت. الامر الاخطر هنا هو استمرار، بل احيانا تسخين وتصعيد خطاب التحريض على ان ايذاء اميركا «واجب على المسلم» او ان اي عمل ضد الغرب «حلال ومطلوب شرعا»، ولئن كان هكذا خطاب خطير بما فيه من تحريض على مزيد من العمليات المشابهة لكارثة 11 سبتمبر، سواء في الولايات المتحدة او في غيرها من دول العالم، فان الخطر الاكبر يتمثل في استمرار الترويج لما حصل، باعتباره نوعا من «الجهاد» الذي هو فرض على المسلم.

أما آن الاوان لكي يتحمل الذين يسهمون في تشكيل الرأي العام العربي والاسلامي مسؤولية دورهم وعبئه الثقيل؟

كلا، ليس المطلوب اعتبار ان كل ما تفعله اميركا صحيح. ليس المطلوب اعفاء واشنطن من اخطائها الكثيرة. ليس المطلوب القول ان الغرب لا يخطئ. ليس هذا هو المطلوب، لكن ليس مطلوبا ايضا الاستمرار في البحث عن مبررات لمنطق تنظيم «القاعدة» وما جره علينا من ويلات وكوارث، وليس منطقيا ان نلج القرن الحادي والعشرين بينما يستمر اعلاميون عرب يفترض انهم مثقفون، حضاريون، منفتحون، في التعامل مع احداث كبرى، مثل كارثة 11 سبتمبر، وفق عقلية: «ليس حبا في زيد»! شيء من المنطق يرحمكم الله!