خواطر 23 يوليو (2) النحاس أولا أم النقراشي

TT

قطف «الضباط الاحرار» الثورة قبل سواهم، لكن مصر كلها كانت في تلك المرحلة تشتعل ضد الانكليز. بمن فيهم الملك فاروق، الذي لم يغفر لبريطانيا الاهانة التي وجهها اليه سفيرها في قصر عابدين العام 1942. وكان فاروق يعيش في هاجس الانتقام والعجز عن الانتقام. ولكن المشاعر المصرية ضد بريطانيا كان لها سبب اكثر عمقا، هو ضياع فلسطين العام 1948، وكان هناك الشعور المرير بالهزيمة العربية، وخصوصا مصر. كان الوضع كله اشبه بحزمة من القش اليابس تنتظر من يقربها بعود ثقاب.

يصف الضابط وسيم خالد («الصراع السري ضد الانكليز» 1963) حالة الجيش في ذلك الوقت بالقول: «هدف واحد كان يوحدنا جميعا: الرغبة في تدمير البريطانيين الذين يحتلون بلدنا. لقد نشأنا في نفس الظروف جميعا. فقد كبرنا كأطفال ونحن نسمع انباء الثورة في ليبيا والمجازر التي يرتكبها الايطاليون، والحرب في الحبشة، ونضال الفلسطينيين البطولي (...) وذات يوم تساءل صديقي حسين علنا عن فكرة اغتيال النحاس (...) ولم اكن قد اعلمته بأنني افكر في قتل النقراشي اولا.

كان الجيش المصري قد بدأ يتململ في صورة علنية منذ ان تراجعت القوات البريطانية الى معقلها في منطقة القناة. وتحول التململ الى تمرد مع انهيار حالة الامن العام بين 1950 و1952. وكانت حكومة «الوفد» العام 1936 قد قررت توسيع التمثيل الشعبي في القيادة العسكرية بأن فتحت ابواب الكلية الحربية امام جميع الشبان الاكفياء، بصرف النظر عن خلفيتهم الطبقية او الاجتماعية. وكان ضباط دورة 1938 اول مجموعة من ابناء الطبقة الوسطى وموظفي الحكومة وملاكي الارياف الصغار، وقد انضم كثير من هؤلاء الى حركة عزيز علي المصري، التي يعتبرها الدكتور مجيد خدوري، استاذ العلوم السياسية في جونز هوبكينز في السبعينات، اول تدخل للعسكريين في الحياة السياسية العربية، وقد ظل المصري حتى اللحظة الاخيرة الملهم والراعي الاول لحركة الضباط الاحرار.

كانت هناك ثلاث قوى رئيسية على الاقل، تستهدف الانكليز: «الاخوان المسلمون» و«حزب الوفد» وحركة «الضباط الاحرار». وفي العام 1951 اقدمت الحكومة الوفدية على صرف جميع الموظفين البريطانيين في الدولة. واخذ العاملون المصريون يضربون عن العمل في منشآت القناة. ورفض عمال السكك المصرية نقل البريطانيين وعتادهم.

واوقف التجار المصريون تزويد القوات البريطانية بالمؤن. ومع اوائل 1952 اضطرت القيادة البريطانية الى اغلاق منطقة القناة. وتولى فؤاد سراج الدين، وزير الداخلية آنذاك، تنظيم مقاومة الشرطة للانكليز. وفي 25 يناير حاصر الانكليز مقر الشرطة في الاسماعيلية واردوا 50 ضابطا في قتال عنيف. وقامت على الفور تظاهرات عفوية في القاهرة فانضم الشرطة والجنود الى الطلاب. واحرقت بيوت الانكليز في المدينة. وقطع المتظاهرون طرق الخروج على سيارات الاطفاء. واحرق 12 بريطانيا وهم احياء، بينهم المفوض التجاري الكندي. وقبل ان يعيد الجيش الامن كان «حريق القاهرة» قد دمر 400 مبنى وترك 12 الف عائلة بلا مأوى وشلت الحياة في العاصمة. وقد وصفت «الاهرام» ما حدث بأنه «حالة انتحار جماعية قام بها الناس اليائسون من زعاماتهم».

مع نهاية الحريق تبين ان البناء السياسي برمته سوف يؤول سريعا الى التداعي. ففي ذلك اليوم اقال فاروق حكومة مصطفى النحاس الوفدية وكلف علي ماهر تشكيل حكومة جديدة. لكن في 22 مارس استبدل الملك علي ماهر بنجيب باشا الهلالي بناء لنصيحة السفير الاميركي، كما يزعم مايلز كويلاند في كتابه الشهير «لعبة الالم». لكن حكومة الهلالي لم تدم طويلا لانه شرع في محاكمة الفساد. واقنع اثنان من فاسدي القصر، كريم ثابت والياس اندراوس، الملك فاروق باقالته. وكانت تلك بداية الخاتمة. فبعد صرف حكومة الهلالي في 26 يونيو راح فاروق يبحث عبثا عن حكومة اخرى. ويصف الكاتب الفرنسي جان لاكوتور (وزوجته سيمون) تلك الفترة بالقول: «من المنتزه الى قصر التين، كانت قوافل الباشاوات والبطانة والمتنصتين تروح وتأتي على غير هدى. كان واضحا انها النهاية. موت ذهبي على الشاطئ».

الى اللقاء