الضباط الأحرار لثورة 23 يوليو المصرية .. مستواهم الفكري وأشياء اخرى

TT

تميزت ثورة 23 يوليو (تموز)عن سائر الحركات والانقلابات العسكرية بأن الذين تولوا قيادتها والتحضير لها كانوا من شباب الضباط الذين لم تتجاوز أعمارهم 35 عاما اذا استثنينا اللواء محمد نجيب والبكباشي يوسف صديق والقائمقام احمد شوقي قائد الكتيبة 13الذي انضم للحركة ليلة قيامها فقط، الأول وقع اختيار الضباط الأحرار عليه ليكون رئيسا نظرا لشخصيته المحبوبة التي جعلت الضباط يختارونه لرئاسة مجلس ادارة نادي الضباط أمام منافسيه من الضباط الخاضعين لارادة السراي، والثاني كان أديبا وشاعرا وثائرا ومنتميا في نفس الوقت الى قسم الجيش في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني التي كانت تضم العناصر ذات الاتجاهات اليسارية والثقافية.

وهكذا كان تنظيم الضباط الأحرار الذي شكل لجنة تنفيذية انتخبت جمال عبدالناصر رئيسا لها من شباب الضباط على خلاف الحركات العسكرية التي قامت بانقلابات كان يرأسها الجنرالات والقادة، وقد عرف الوطن العربي هذه الانقلابات في العراق لأول مرة مع انقلاب اللواء بكر صدقي عام 1936 رئيس أركان حرب الجيش العراقي، وكذلك كان حسني الزعيم قائد أول انقلاب في سوريا رئيسا لأركان الجيش السوري.

والضباط الأحرار كانوا من أبناء الطبقة الوسطى التي دخلت الكلية الحربية بعد معاهدة 1936، وكانوا من واقع طبقي واجتماعي غير مرتبط بأبناء الطبقة التي كانت في السلطة.

وهنا نوضح ان «الضباط الاحرار» كانوا يشكلون في معظمهم نوعية خاصة من الضباط الذين كان في قيادتهم ضباط لم تتوقف طموحاتهم عند حدود الجيش، وعلى سبيل المثال كان اللواء محمد نجيب قد حصل على ليسانس الحقوق ودبلوم القانون الخاص وظهرت شجاعته في حرب فلسطين التي جرح فيها، وأسفر عن موقف خاص في مواجهته الصريحة مع قيادات الجيش الخاضعة لنفوذ السراي في انتخابات نادي الضباط، وكان ثلاثة من قادة الضباط الأحرار ليلة الثورة مدرسين في كلية أركان الحرب وهم جمال عبدالناصر وزكريا محيي الدين وكمال الدين حسين، وثلاثة منهم حصلوا على نجمة فؤاد في حرب فلسطين وهم جمال عبدالناصر وعبداللطيف البغدادي وزكريا محيي الدين، وثلاثة منهم حصلوا على ترقية استثنائية في حرب فلسطين وهم عبدالحكيم عامر وكمال الدين حسين وصلاح سالم، وتخرج خالد محيي الدين من كلية التجارة أثناء خدمته العسكرية، وأصدر كاتب هذه السطور كتابين قبل الثورة أولهما «حرب العصابات» الذي أهديته الى المناضلين في أوطانهم عام 1947، و«خواطر» عن الحرب الذي أهديته الى (زملائي تحت ثرى فلسطين).

وهكذا يمكن القول إن بعض قيادات الضباط الأحرار كانت من نوعية خاصة، كما انهم كانوا يفكرون في الآخرين وتثقل صدورهم هموم الشعب، ومع ذلك يصعب القول إنهم في مجموعهم أو في الاغلبية من قياداتهم كانوا من المثقفين، لان طبيعة الضباط وتعليمهم وعزلتهم عن المجتمع تجعل منهم فئة خاصة تتعامل مع الحياة بالأسلوب الذي اعتادته في الجيش والذي يغلق دائرة التفكير غالبا في حدود اعطاء الأوامر وتنفيذها.

وما ورد في منشورات الضباط الأحرار لا يعكس المستوى الفكري لهم ولا يعطي مقياسا صحيحا لدرجة وعيهم، بل هو تعبير عن أفكار عدد محدود منهم.

ولاشك ان قصر الفترة الزمنية لتشكيل تنظيم «الضباط الاحرار» التي لم تتجاوز الثلاثة اعوام بكل ما صاحبها من ظروف التجنيد واستكمال شكل التنظيم كانت سببا رئيسيا في عدم خلق وحدة فكرية ووعي ثقافي مشترك لهؤلاء الضباط القادمين من مدارس فكرية مختلفة وتنظيمات سياسية متباينة.

كانت الأفكار الوطنية العامة والنقمة على الاستعمار هي الدافع الرئيسي لتحريك الضباط، ولكن تفاصيل الأمور كانت متباينة في عقولهم، وصورة المستقبل غير واضحة أمامهم.

كان «الضباط الأحرار» في حركتهم دعاة تغيير واصلاح، لم يكونوا مثل جنرالات باكستان أو جنرالات السودان فيما بعد، الذين استولوا على السلطة بدون أن يكون في أحلامهم تغيير شكل المجتمع أو القيام باصلاحات جذرية، بل انهم كانوا استمرارا لنظام الحكم القائم بملابس عسكرية بدلا من الملابس المدنية.

كان الواقع الطبقي والاجتماعي للضباط الأحرار مختلفا عن الواقع الطبقي والاجتماعي للسلطة التنفيذية.

لم يكن بين الضباط الأحرار ابن من أبناء الأسر الاقطاعية أو ابن لكبار الرأسماليين، كانت هذه الأسر تتعالى على الجيش ولا تدخل أبناءها فيه، فلم يكن هناك في الجيش ضابط من أسرة البدراوي عاشور أو شعراوي أو سلطان أو لملوم أو الطرزي، حتى زكي شقيق فؤاد سراج الدين دخل الكلية الحربية عام 1942 وخرج هاربا بعد عام واحد، حتى كبار الضباط الذين وصلوا الى مراكز عالية لم يدخلوا ابناءهم الجيش، الاميرالاي محمود ماهر (1854-1909) هو والد علي ماهر واحمد ماهر، وسردار الجيش المصري (1864-1879) كان من عائلة راتب التي لم يدخل أولادها الجيش، وفي كتاب «تاريخ الملكية الزراعية في مصر الحديثة» ان 100 عائلة من اقطاعيين في النصف الأول من القرن العشرين 30 منهم ممثلون في البرلمان نوابا وشيوخا وأحيانا بأكثر من عضوين، 18 منهم عينوا وزراء ولكن لا ضابط واحدا.

ولم يكن في الجيش واحد من أبناء الأسرة المالكة كما كانت العادة من قبل، تعيين الأمير اسماعيل داود قائدا لسلاح الفرسان في الفترة من عام 1942 الى 1944، وكان تعيينه تعبيرا عن نزوة خاصة، أساء إليها سلوكه الشخصي المتسم بالشذوذ، كما عين الملك زوج شقيقته الأميرة فوزية الاميرالاي اسماعيل شيرين مديرا لادارة فلسطين بدون أن يكون متخرجا من الكلية الحربية، ثم عينه وزيرا للحربية في وزارة نجيب الهلالي الأخيرة.

لم يكن الجيش المصري في ذلك الوقت مثل الجيوش الاوروبية الاستعمارية التي يشكل الضباط فيها طبقة متميزة تتوارث حمل السلاح جيلا بعد جيل، وتنتمي الى طبقة النبلاء من بقايا الاقطاع الأوروبي، ومن المعروف ان الجيش الالماني كان يعتمد بصفة خاصة على الضباط «اليونكر» من البارونات الاقطاعيين البروسيين، والذين تتحلى اسماؤهم بكلمة «فون» التي تنسبهم الى أرض معينة كان لأجدادهم عليها سلطان اقطاعي، وفي فرنسا أعرق الديمقراطيات البرجوازية يعين في قمة جيشها القادة الذين يحملون المرادف الفرنسي لكلمة «فون» وهو «دي» ديجول، دي رنتر، دي كاستر قائد قاعدة ديان بيان فو الذي كان يفخر بأنه جنرال ابن جنرال حتى القرن السابع عشر.

يعمل الضباط عادة في تلك الجيوش على غرس روح الطاعة العمياء وازدراء الحركات الشعبية واستنكار العمل السياسي والاعجاب بالقادة الرجعيين والشوفينية المتطرفة والاستمتاع بالبطش بشعوب المستعمرات.

كان الضباط الأحرار إذن من نوعية خاصة، وكانوا في واقعهم تجمعا لتنظيمات مختلفة داخل الجيش كانت جذورها تمتد لتنظيمات خارج الجيش مثل الاخوان المسلمين والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، ومصر الفتاة، والوفد وغيرها، ولكن جمال عبدالناصر حرص على أمرين، أولهما ان يفتح أبواب تنظيم الضباط الأحرار لجميع الراغبين حتى يمثل جميع ألوان الطيف السياسي من أقصى اليمين الى أقصى اليسار مشترطا على كل ضابط حر أن ينهي صلته التنظيمية بالتنظيم الذي كان مرتبطا به، وذلك حتى يصبح تنظيم الضباط الاحرار بمثابة جبهة وطنية عسكرية.

وهنا يجب الوقوف عند الاسباب التي دفعت الضباط الاحرار الى القيام بحركتهم وحدهم بدون ارتباط مع القوى الشعبية الأخرى، وهو الأمر الذي كان واضحا في منشوراتهم التي كانت تؤيد جماهير الشعب تأييدا حاسما، والسبب هو علمهم بأن الملك قد قرر اعتقال الضباط الأحرار بعد ان اصبحت منشوراتهم تشكل قلقا لاستقرار النظام الملكي، فاعدت الخطة ونفذت خلال خمسة أيام فقط، وهو أمر يدل على شدة الانضباط في تنظيمهم، وفي توفيق من الله صاحب حركتهم.

ولاشك ان التوفيق كان حليفا للضباط الأحرار في نجاح ثورتهم ليلة 23 يوليو بدون صدام أو إراقة دماء، واعتبرت بذلك ثورة بيضاء.

كان مفروضا ان يلتقي الضباط الأحرار صباح كل يوم 23 يوليو، احتفالا بانتصار حركتهم، ولكن ذلك لم يحدث أبدا، فقد شعرت هذه المجموعة الصغيرة من ضباط الجيش والطيران ان الحركة قد احتضنتها جماهير الشعب منذ لحظتها الأولى، وان ما قاموا به كان تعبيرا عن ارادة جماعية، استطاعوا ان ينفذوها، لأنهم كانوا يملكون التنظيم، ويملكون السلاح.

لم يشعر الضباط الأحرار انهم كانوا في حاجة الى لقاء خاص بهم يحتفلون فيه بانتصاراتهم، وانما انصهر احتفالهم منذ العام الأول لثورة 23 يوليو مع الملايين من أبناء شعب مصر الذين غيرت هذه الحركة واقع حياتهم وطبيعة مجتمعهم.

وأخيرا فإن أصغر الضباط الأحرار اليوم قد تجاوز السبعين من عمره وأصبح في موقع المشاهد بدلا من المشارك، وآخر الاحصائيات تشير الى ان 50 منهم قد انتقلوا الى رحاب الله وانه مازال هناك 45 ضابطا حرا ينعمون بالحياة، ويحتفلون بالعيد الخمسين لثورة 23 يوليو.