تحليلات أمريكية تهدد بقطيعة مع العالم العربي

TT

تبدو تجربة العالم العربي مع دبليو بوش منذ وصوله إلى البيت الأبيض وحتى الآن، ليس فيها ما يبعث على تنامي الثقة أو تدفق الآمال، بل كل ما لاح وميض أمل في موقف ما كان منتظراً منه سارع إلى إطفائه غير عابئ بالمقدمات التي أطلقها وزير خارجيته أو بعلائق الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم العربي بأسره، أو حتى بمواقف حلفائه الأوروبيين. فقد ظل على الدوام يعير أذنيه وعقله إلى جناح الصقور في إدارته حتى صار منهم. ويضع في سلة المهملات مقترحات وأفكار المعتدلين في إدارته إلى حد يشبه الإلغاء لدور وزارة الخارجية، وأبرز الآيات في ذلك كل الأمور المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

لقد بدا واضحاً أن الصقور لا يقيمون وزناً للعلاقات الأمريكية العربية وأنهم يتجاوزون حدود الدعم لإسرائيل إلى تبني المواقف الشارونية بالكامل، وقد تجلى ذلك في خطابه الأخير لرؤيته لحل القضية إذ كان خطاباً شارونياً بشهادة الإسرائيليين أنفسهم، ومن بعده عكست التصرفات الأمريكية كل ما اغضب العرب وزاد من خيبة أملهم في بوش وصقوره، لأنه لم يكتف بالسكوت عن مطالبة شارون بالانسحاب من الأراضي التي أعيد احتلالها إنما أفصح عن تأييده لما يعتبر اجتياحاً لتلك الأراضي حين قال: إنه يدعو الإسرائيليين لكي يسمحوا بحرية أكثر للفلسطينيين كلما تحسن الوضع الأمني. ما يعني التخلي الكامل عن كل المطالبات السابقة فضلا عن التخلي عن المؤتمر الدولي والسكوت على إخلاء المستوطنات أو التوقف عن البناء، وفوق هذا وذاك لا حديث عن تلازم لكل المسارات مع الإصرار على عدم التعامل مع عرفات وضرورة ابعاده عن القيادة واعتبار كل مقاومة للاحتلال إرهاباً!.

ان كل هذه المواقف الأمريكية أدت إلى خيبة أمل كبيرة في الإدارة الأمريكية التي لم يعد هناك أي عربي يراهن على أنها ستقف بجانب الحق والعدل، بل ان الريبة في تزايد مستمر كونها لا تقيم أي وزن أو اعتبار لهم وانها من خلال ما توصلت إليه من تحليلات الصقور في طريقها إلى قطيعة كاملة مع كل العرب، ما لم يستدرك الرئيس خطأ تلك التحليلات ويتحلل من انحيازه للصقور ويستمع إلى الجناح المعتدل في إدارته، ولكن الرئيس على ما يبدو من كل تصرفاته الراهنة ماض وفق توجهات الصقور.. فها هي الإدارة تحاول أن ترفع من سقف جعل إزاحة نظام صدام أولوية تغطي على كل الجرائم التي تمارس في إسرائيل ضد الفلسطينيين. ولا تقيم وزناً لآراء المعتدلين الذين يرون الأسبقية ينبغي أن تمنح لإحراز تقدم كبير ومقنع بالنسبة للقضية الفلسطينية حتى لا يكون العالم العربي كله معبأ ضد أمريكا. لكن الصقور يسخرون من المعتدلين في الإدارة الأمريكية لكونهم يعتبرون أن كل العالم العربي لا خوف منه على المصالح الأمريكية، وأنه في المحصلة النهائية أياً كانت التطورات فإنها يمكن أن توظف لما تريده الولايات المتحدة. فبالنسبة للشعوب العربية فتقديرها انها شعوب عاطفية وستكون فورتها مؤقتة موسمية وتنتهي وتتلاشى دون أثر يذكر لأنه لا توجد منظمات مدنية تجعل من أية هبّة ذات أثر واستمرارية. وفي أغلب الحالات فإن الأنظمة ستتكفل بضبط وردع تلك الفورات حماية لكراسي حكمها، وان عجزت وأدى ذلك إلى فوضى فإن تدخل الولايات المتحدة لضبط الأمور يكتسب شرعية للمحافظة على مصالح القوى العظمى!. اما إذا سقطت تلك الأنظمة واستبدلت، ساعتها بوسعهم ألا يتأسوا على سقوطها، بل يعتبر ذلك السقوط مدعاة لإزاحة كابوس كان يؤرقهم بحسبانهم يحمون أنظمة لا تقيم وزنا للديمقراطية، وان تعاملهم مع الأنظمة الديمقراطية سيكون نقطة تحول لصالحهم. هكذا تحلل الصقور الأمريكية الوضع تمشياً مع الرؤية الإسرائيلية من جهة، ومع النظرة الأحادية للهيمنة على العالم دون أدنى اعتبار لما ينظم العلاقات الدولية. ومن هذا المنظور تستبيح الولايات المتحدة كل العالم وتتدخل وفق ما ترى دون التزام بالقوانين الدولية، فها هي بعد أن اكتمل تمهيدها لضرب العراق، يطل علينا كبير صقورها ديك تشيني ليعلن انه يتخوف من احتمالات تطوير إيران برنامجا نوويا أكثر مما يخشى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، مما يعني أن إيران ستكون على لائحة الدول التي ستضربها أمريكا من منظور نظرية «مَن ليس معنا فهو مع الإرهاب» أو «دول محور الشر» أو «الدول المارقة» وكلها مسميات أطلقها بوش وأطلق معها ما وصفه بالحرب الوقائية، بمعنى أن تسبق الولايات المتحدة ما تعتبرهم أعداء خطرين وتقضي عليهم قبل أن يفكروا في الوصول إليها لمجرد الإحساس بأنهم ربما يفكرون في مهاجمتها أو يملكون أسلحة دمار شامل!.. وقبل إيران سمعنا تهديدات مبطنة ومعلنة لسوريا بأنها ما لم تبعد معسكرات «الإرهابيين» من اراضيها فإنها لن تنجو من ضربات وقائية مع المزيد من الترويج ضد «حزب الله» وحركات المقاومة الفلسطينية الأخرى. وبالنسبة لحركات المقاومة مجتمعة فإن الرئيس بوش نفسه في خطابه الأخير حذر الأنظمة العربية مجتمعة من دعمها أو حتى السماح للإعلام الرسمي من مساعدتها مما أسماه التحريض على العنف.

حقاً وصدقاً، ان ادارة بوش بكل صقورها أصبحت ترى الأمل الوحيد في استمراريتها في السلطة وفي كسبها للانتخابات البرلمانية القادمة ومن بعدها الانتخابات الرئاسية، في تصعيد الحرب على الإرهاب ومن ثم في تركيع الجميع سواء باستخدام القوة أو التهديد بها وتحت دق طبول الحروب باستمرار يمكن اسكات كل الأصوات في الداخل مستعيرة شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» فعسى أن يعينها ذلك على تجاوز الفساد المالي الذي أخذت فضائحه تدق أبواب البيت الأبيض والانهيار الاقتصادي الذي أضحى يهدد القلعة الرأسمالية الأولى في العالم. وإزاء هذا التعطش للسلطة المصحوب بهذا التطرف لدى من يملكون أعتى وأكبر قوة في العالم، فإن احتمالات المستقبل غير مبشرة. ومن غير المستبعد أن ينجر كل العالم وراء فوضى لا أول لها ولا آخر. بيد أنه من المؤكد أن الولايات المتحدة في ظل هذه السياسات المتبعة والتي لم تترك لها صديقاً ولا حليفاً إلا مسته بقدر من الضرر أو التجاوز ـ إلا إسرائيل ـ لم تعد صالحة أو مقبولة للاستفراد بقيادة العالم. ولا شك أن هذه الضغوط التي تمارسها على كل العالم ستعجل بالبحث عن توازنات وخلق أقطاب جدد لأن العالم يستحيل أن يسلم قياده لقوة لا تقيم وزناً للقوانين التي تحكم العالم أو لحليف أو صديق ناهيك عن الأعداء الكثر.

أما على الصعيد العربي، فإن الصفعات التي توالت من صقور الإدارة تستحق أن ترد بصفعات تجعلهم يدركون خطأ تحليلاتهم ونظرتهم البائسة عن العرب شعوباً وحكومات. وعسى أن يكون اجتماع اللجنة الرباعية الذي يعقد اليوم بواشنطون ويشارك فيه وزراء خارجية مصر والسعودية والأردن خطوة أساسية في اتجاه تصحيح الضبابية والغطرسة التي اشتملت عليها الرؤية الأمريكية للقضية الفلسطينية، فلعلها الفرصة الأخيرة لكي تستدرك أمريكا الكم الهائل من الأخطاء والخطايا التي ارتكبها الصقور!.