سوسيولوجيا الأغنية العربية: أوفد الإنجليز أسمهان إلى سورية لكنها لم تكن جاسوسة

TT

سألت عبد الوهاب عن صوت أسمهان، فقال لي إنه أشبه بتكسر حبات نجفة الكريستال (الثريا). كان ذلك في الخسمينات. وفي مصيف بلودان السوري الشهير أعدت عليه السؤال في باريس بعد نحو ثلاثين سنة، ولم تغير السنين الجواب.

لا أدري أي شاعر موهوب يستطيع أن يجاري عبد الوهاب في تصوير صدى هذا الصوت الكريستالي. وحده الفنان عبد الوهاب يستطيع، ووحده عبد الوهاب المثقف الذي صقلته القراءة منذ أن التقطته أنامل الشاعر الكبير شوقي.

أمضت أسمهان في هذه الدنيا 32 سنة فقط (1912 ـ 1944) نصفها في شقاء الفقر، وعشر سنوات منها على مفترق عاصف تقاطعت عنده حلاوة الجمال ولهو الشباب مع دروب الفن والحب والحرب والسياسة.

كان على أسمهان أن تموت باكراً ضحية لهذا التقاطع الصعب، وما زال غرقها لغزاً محيراً. ولو عاشت أسمهان أكثر لفقدت سريعاً كريستالية الصوت باللهو والتدخين والسهر. فالصحة رصيد في بنك العمر، بعضنا يبدد رصيده بسرعة كما فعلت أسمهان وفريد (59 سنة)، وبعضنا ينفق منه في حرص يبلغ درجة الخوف كما فعل عبد الوهاب (91 سنة).

صوت أسمهان فريد في نوعيته. إذا كان لصوت أم كلثوم رنين الذهب، ففي تكسر الكريستال (ولا أقول الانكسار) رنين حزن نبيل وكبرياء لم يتوفر لغير أسمهان طيلة قرن حداثي. وحدها فيروز أكملت مشوار أسمهان، لكن بصوت فضي آت إلى كوكبنا على شعاع من قمر رومانسي حالم.

من يسمع أسمهان الآن ولا تدمع عيناه؟ إنها هي وفيروز، وليست أم كلثوم، رمز الحداثة الغنائية. مع أسمهان يغالبك الحنين إلى رومانسية عصر عربي كان أهدأ، وفضاء مدن كان أرحب. ولا تختنق بزحام البشر وهباب السيارات. لكن لا يخامرك شك في أن أسمهان كأنها فرغت للتو من تسجيل أغانيها بعد ستين سنة من الغياب.

عندما تألقت نجومية أسمهان على أبواب الأربعينات كانت مصر تغادر رومانسية سياسية قلقة، لتدخل في منولوغ داخلي حار بين أنصار الحداثة وفي مقدمتهم عمالقة الفكر، ودعاة الانطواء على الذات والماضي وفي مقدمتهم حركة «الاخوان». وكانت مصر التي يحتلها الانجليز تدخل أيضا دائرة الحرب العالمية. فالألمان يخترقون المغرب العربي كما تخترق السكين قالب الزبدة، ويتقدمون بسرعة نحو مصر للاستيلاء على قناة السويس والشرق. وكان الانجليز أيضاً في فلسطين والأردن، لكن سورية ولبنان اللتين تحتلهما فرنسا كانتا خاضعتين لحكومة فيشي الفاشية الموالية للألمان.

تحرك الإنجليز بسرعة. قرروا الدخول في معركة فاصلة مع الألمان قبل وصولهم إلى الاسكندرية والسويس. ولتأمين ظهرهم فقد تغيرت حساباتهم: فرضوا على الملك فاروق الإيطالي الميول حكومة حزب الوفد المعادي لهم ليقوم بـ«ضبط» الشارع المصري المتعاطف مع الألمان. وأرسلوا الفيلق العربي (الجيش الأردني) بقيادة الجنرال غلوب إلى العراق ليساعدهم في اخماد الحركة القومية التي استولت على الحكم هناك مراهنة على انتصار الألمان.

وسبق ذَهَبُ الإنجليز قواتهم إلى سورية ولبنان. فقد كان عليهم البحث عن حلفاء لهم، فأحيوا، مثلا، حلفهم التاريخي القديم مع الدروز. ولم يعثر الانجليز سوى على أسمهان (آمال الأطرش) التي تنتمي إلى أسرة درزية رفيعة، لتكون الرسول الأمين المحمّل بالذهب إلى زعماء الدروز في سورية ولبنان، دون أن تثير شكوك المخابرات الفرنسية.

من هنا جاء الاتهام الظالم لأسمهان بأنها «ماتا هاري» عربية وجاسوسة انجليزية. وذهب الخيال الصحافي إلى اتهامها بأنها انقلبت جاسوسة ألمانية! الواقع الأغلب هو أن هذه الفنانة الجميلة كانت ساذجة سياسياً، ولم يكن وعيها كافياً لنقل معلومات وأسرار مفيدة لأجهزة المخابرات المتصارعة، سواء من رحلاتها «الذهبية» الى سورية ولبنان، أو بالتجسس على القصر الملكي، من خلال علاقتها الغرامية مع كهل القصر الوسيم الباشا محمد أحمد حسنين الذي كان ايضا على علاقة مماثلة مع الملكة الوالدة نازلي.

على أية حال، خرجت أسمهان من مغامرتها السورية خالية الوفاض. فقد بدّدت بسرعة المال الذي حصلت عليه، ووقعت في شرك زواج مع أمير درزي لم تبادله حبه العميق لها، وهربت من السويداء المبنية بحجر بركاني كئيب لتعود إلى أضواء القاهرة. وكنت أرى الدموع تجول في عيني الأمير حسن الأطرش (الذي أصبح وزيراً سورياً في الخمسينات) كلما ذكر أحد اسمها أمامه. وكان عزاؤه الوحيد ابنته كاميليا، التي كانت ثمرة الزواج العاصف.

المؤمنون بنظرية المؤامرة يعتقدون أن اسمهان ذهبت ضحية مؤامرة معقدة أطرافها نازلي والمخابرات البريطانية أو الألمانية. وشطح الخيال إلى حد اتهام أم كلثوم بالتآمر على حياة منافستها التي كادت تزحزحها عن عرشها الفني. الغريب أن باشا القصر العاشق حسنين تصرعه في الوقت ذاته سيارة شحن بريطانية في ظروف هي أيضا غامضة. وبمصرع حسنين يفقد فاروق الناصح السياسي الأمين.

مع ذلك، فأنا أميل إلى تبرئة القصر الملكي، مشيراً إلى أن مدير بوليسه السياسي القائمقام (المقدم) ابراهيم امام غامر شخصياً بحياته، وجرح لينقذ اسمهان من براثن موت محتم برصاص الممثل أحمد سالم أحد عشاقها. ولا أدري إذا كان الاستاذ ناصر الدين النشاشيبي قد أورد شيئا في مذكراته عن اسمهان، فأنا مع الأسف لم اطلع عليها كاملة، بعد.

كان الصحافي الكبير محمد التابعي في مقدمة الذين أهالوا على وجه اسمهان قناع الجاسوسية الشفاف في مذكراته التي نشرها خصيصا عنها. المذكرات غاية في الروعة من حيث الأسلوب الصحافي. لكن اعتقد أن التابعي «البلاي بوي» الهرم كان كاذباً كبيراً عندما أوحى بأن اسمهان كانت عشيقة له، فلم يكن له باع أطول في هذا المجال من باع باشا القصر النافذ.

التفسير السوسيولوجي لهذا الظلم المصري الفادح الذي تعرضت له هذه الفنانة الكبيرة وشقيقها يعود الى رفض المصريين لـ «الشوام» الذين وفدوا إلى مصر مع الاستعمار البريطاني. هؤلاء «الشوام» في الواقع كان أغلبهم من مسيحيي لبنان ومثقفيهم. وكان انحيازهم الى القصر ومهادنتهم الانجليز سبباً لنقمة مصرية عارمة على «فهلوة» الشوام وشطارتهم اللتين أوصلتاهم الى نفوذ سياسي وفني وثقافي لا يحلمون به في لبنان.

اسمهان وفريد من الجيل الثاني لهؤلاء «الشوام» المهاجرين، لكن يختلفان عنهم كلياً. فقد ظلا يفخران بعروبتهما وبانتمائهما إلى أسرة درزية نبيلة، الأمر الذي جعلهما «أجانب متمصرين» في رؤية اجتماعية وفنية مصرية لم تكن قد استعادت، بعد، انتماءها القومي ووعيها العربي. ولعل مباهاة اسمهان علنا بمغامراتها الساذجة الى درجة ترشيح نفسها للإمارة على سورية، كانت في مقدمة أسباب تغييبها القسري، إذا كانت هناك حقاً مؤامرة عليها.

لم يكن بإمكان الجسم المصري الفني تجاهل اسمهان غنائياً، لكن فريد الأطرش الذي عاش عمراً أطول تعرض إلى ظلم مصري أكبر، بسبب هذه المباهاة الشامية والدرزية التي لم يخفها، كما أخفتها بذكاء وبراعة، أسرة البابا الدمشقية المهاجرة التي وهبت مصر نجوماً سينمائية لامعة، بدءاً بأنور وجدي، مروراً بنجاة، وانتهاء بأختها سعاد حسني.

أنتج فريد الأطرش فناً غنائياً مصرياً خالصاً. إذا كان لفنه انتشاره العربي فلكونه مصرياً مقبولاً، وليس لكونه «فناً سورياً» كما يقول الوزير والباحث الفني السوري سعد الله آغا القلعة. فقد وعى فريد واسمهان طفولتهما في مصر وتأثرا بفنها وغنيا بلهجتها، وعاشا وماتا في حب مصر.

سبق لي أن قلت إني سأتحدث عن علاقة الناصرية بالأغنية العربية، لكن شاءت اسمهان احتلال المساحة كلها، بحيث أجلت الحديث مرة أخرى. وإذا كان لي عذر في هذا «الاحتلال» الفني المتواصل لصفحة الرأي السياسية، فهو أني أتحدث عن سوسيولوجيا فن عربي شعبي كان وثيق الصلة بالسياسة والمجتمع.