أهو اتحاد إفريقي جديد أم نسخة مصورة لمنظمة الوحدة الأفريقية؟

TT

أُعلن في ديبريان بافريقيا الجنوبية عن ميلاد تجمع 52 دولة افريقية باسم الاتحاد الافريقي.

وهذا الحدث في حد ذاته ذو اهمية بالغة، الا انه لم يلق اهتمام الاعلام العالمي مثلما اهتم بالقمة الافريقية لمحاربة داء فقد المناعة (الإيدز)، التي سبقت انعقاد مؤتمر ميلاد الاتحاد وشغلت طيلة انعقادها شاشات الاعلام ومواقع الانترنيت، وتصدرت انباؤها الصفحات الاولى من الاعلام المكتوب العالمي. فماذا يعني ذلك؟

ان الاتحاد الافريقي الجديد لا يعدو ان يكون نسخة مصورة لمنظمة الوحدة الافريقية التي انشئت سنة 1963 وكان مقرها بأديس ابابا، لكنها لم تسجل تقدما ولا عرفت نجاحا حتى لقد قيل عنها انها المنظمة الدولية الفاشلة بامتياز. ووُصِفت في نهاية عهدها بأنها مجرد نقابة لرؤساء الدول الأفارقة.

تُرى من المسؤول عن هذا الفشل؟ هل كان مرده الى تراكمات المشاكل المستعصية على الحل التي عانت منها قارة افريقيا طيلة نصف قرن، وكانت سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في آن واحد، واصبحت تؤلف امراضا مزمنة لا ينفع فيها علاج؟ ام كان سوء ادارة منظمة الوحدة الافريقية وحده المسؤول عن فشلها وقصورها عن اداء مهمتها؟ ام كان السبب هو ما يردده انصار نظرية المؤامرة الاجنبية من ان قَدَر قارة افريقيا تصنعه الدول الاستعمارية الكبرى التي كانت وزعت القارة السمراء بينها واخضعتها لنفوذها، ثم غادرتها وتركتها بعزم وإصرار وتخطيط مُحكَم معرَّضة للمصير الذي آلت اليه؟

بصرف النظر عن الاسباب ـ وهي كثيرة ـ فان واقع قارة افريقية يستمر بما يجعل منه ذلك الواقع، الذي ليس له من دافع، للأسف الشديد. لكن ذلك لا يبرئ ذمة منظمة الوحدة الافريقية الفاشلة من مسؤوليتها لعجزها عن مواجهة مشاكل القارة لا لأن المشاكل لا تقبل الحل، ولكن لأن المنظمة لم تحسن التصرف في تعاملها معها، بل كان تصرفها احيانا يخلق للقارة مشاكل اضافية زائفة تضاعف معها حجم تراكم القضايا المعقدة.

يبدو ان عدم الاهتمام العالمي الذي لقيه الاتحاد الافريقي ناتج عن فقده المصداقية التي لم تكن منظمة الوحدة الافريقية تتوفر عليها، ولأنه هو وارث تركة هذه «النقابة» الافريقية فانه يظهر انه ورث عنها ايضا فقد المصداقية، بالرغم من ان رؤساء الوفود الذين تعاقبوا على منصة الخطابة طيلة الثلاثة ايام التي استغرقها اجتماع المؤتمر التأسيسي ظلوا يرفعون اصواتهم بأن ميلاد الاتحاد سيعطي لافريقيا نَفَساً جديداً، وستجتاز به نقلة نوعية الى مستقبل طافح بتحقيق الآمال التي عجزت القارة عن تحقيقها الى اليوم.

ربما ضاعت هذه الاصوات في هدير امواج المحيط الهندي الذي كان تأسيس الاتحاد يجري على شواطئه. اما الخطب التي القاها عدد من الرؤساء فلم تنجح في اقناع العالم الخارجي، ربما لأن الكثيرين منهم كانوا هم انفسهم غير مقتنعين بصدق ما يقولون.

لم تترك «المرحومة» منظمة الوحدة الافريقية حصيلة تُذكر.ولا يُعرف شيء عن منجزاتها سوى اخطائها التي ارتكبها عدد من امنائها العامين وزادت طينتها بلَّة . وكانت لها آليات لا تعمل: مجلسها الاقتصادي وجهاز توقي النزاعات ـ مثلا ـ توقفا منذ مدة ولم يعد يُسمع لهما خبر، بالرغم من ان القارة كانت غارقة في النزاعات المسلحة، وفي ازمتها الاقتصادية التي كانت تنتقل من السيئ الى الأسوأ. ونزلت المساهمات المالية للدول الاعضاء الى مستوى قياسي لم تعرفه اية منظمة عالمية. لذلك كانت المنظمة تعجز عندما تتدخل ـ وكان هذا نادرا ـ في بعض النزاعات الافريقية عن تحقيق هدفها لأنها لم تكن لها وسائل عملها.

لقد كان خطأ فادحا تصرف الامين العام الطوغولي السابق لمنظمة الوحدة الافريقية عندما خضع لضغط الجزائر وأقحم في عضوية المنظمة حركة متمردة على وطنها تعيش في منفى الجزائر، واطلقت على نفسها اسم «الجمهورية الصحراوية» بينما لم تكن لها دولة ولا تراب ولا سكان، وهي مقومات الدول الاساسية، وانتزع الامين العام آنذاك التصويت على قبولها من مجلس الوزراء الذي لم يكن يعي ان الأمر دُبِّر بليل، وان وراء هذه العملية ـ على ما يقال ـ صفقة مالية مشبوهة، لكنها كانت المسمار الذي دُقَّ بمكر في نعش المنظمة. فقد انسحب المغرب من المنظمة احتجاجا على قبول الجمهورية الموهومة. ومنذ ذلك والمنظمة تتعثر وتنزل الى الحضيض.

ان المغرب كان واحدا من الدول الافريقية الست التي انشأت بمبادرة من ملك المغرب محمد الخامس اول نواة للتجمع الافريقي وحملت اسم «منظمة الدار البيضاء»، واتخذت لها من المغرب مقرا وكان اميناها العامان مغربيين. وساهم في تأسيسها بالدار البيضاء بجانب ملك المغرب سنة 1959 الرؤساء: جمال عبد الناصر، وقوامي نكروما، وأحمد سيكوتوري، وموديبو كيتا، ورئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة عباس فرحات. وكانت المملكة الليبية عضوا ملاحظا فيها. كما كان المغرب مؤسسا فاعلا في منظمة الوحدة الافريقية بأديس أبابا سنة 1963، وكانت له اسهامات مفيدة في العهد الزاهر الاول للمنظمة، واستمر فيها الى ان انسحب منها اثر مؤامرة قبول الجمهورية الصحراوية فيها. ومن هذا التاريخ دخلت المنظمة في العد العكسي: عهد التردي الذي تتحمل الجزائر مسؤوليته كما تتحمل مسؤولية تعطيل اتحاد المغرب العربي لنفس السبب.

لم يخسر المغرب مطلقا بانسحابه، وانما كانت منظمة الوحدة الافريقية هي الخاسرة، اذ فقدت اسهام البلد المؤسس لاقامة التجمع الافريقي الاول الذي كان يُرفدها بعطاءاته على جميع اصعدتها. كما ان المغرب خلق له نشاطا موازيا مباشرا مع معظم الدول الافريقية الاعضاء التي اصبح عدد من رؤسائها يحجون الى المغرب مباشرة مما نمت معه العلاقات الثنائية والمتعددة. وظل المغرب يساهم في صندوق التنمية الافريقي. وقام الملك الحسن الثاني وبعده الملك محمد السادس بتحقيق المصالحة بين دول افريقية متنازعة. واعترف الأفارقة من جانبهم للمغرب بما أسداه فتراجعت اكثريتهم عن الاعتراف بالجمهورية الصحراوية المزعومة، وطرح بعضهم في عدة اجتماعات موضوع طردها من المنظمة لأنها لا تستوفي الشروط لاستمرار عضويتها، ولأن افريقيا لا غنى لها عن المغرب البلد الافريقي الاصيل.

واليوم يتأسس الاتحاد الافريقي الجديد وقد غاب عنه المغرب. وما كان ينبغي ان يبقى غائبا بعد خلق الاتحاد الجديد الذي لا يجوز له ان يرث ما جنته المنظمة السابقة على نفسها عندما لم تترك للمغرب الا خيار الانسحاب منها وعندما ضمت اليها جهازا مصطنعاً وليس دولة.

لم يكن ميثاق منظمة الوحدة الافريقية يسمح بطرد عضو من اعضاء المنظمة ولم يكن صريحا في اشتراط توفر مقومات الدولة للأعضاء. اما في الاتحاد فيمكن توجيه الدعوة للمغرب للالتحاق به، ومعارضة قبول انخراط الجمهورية المزعومة فيه لعدم توفر الشروط.

واذا قام الاتحاد الافريقي باصلاح خطأ المنظمة ـ وهو ما طالب به عدد من دوله ـ فسيكتسب بذلك مصداقية لم تكن للمنظمة سابقا اذ سيبدو انه يتقيد بالشرعية، ويعمل في الشفافية والوضوح، وانه قطع علاقاته بعهد سابقته التي كانت تعمل في الظلام، وتُبيِّت المؤامرة على الشرعية، وتحفر قبرها بيدها.