أميركا أمام امتحانين كبيرين

TT

موجة الفضائح المالية والادارية التي تعرضت لها الشركات الاميركية والاوروبية، الكبرى، ليست مجرد ازمة اقتصادية عابرة. ولا النصائح الاخلاقية او التدابير الوقائية التي اسداها او اعلن عنها الرئيس الاميركي في «خطابه الاقتصادي» الاخير، كافية لانقاذ الاقتصاد الاميركي بل والاقتصاد الرأسمالي الليبرالي العالمي، من الازمات الخطيرة التي لا مناص له من الوقوع فيها. فبعد سقوط الآيديولوجية الاشتراكية ونظامها وتطبيقاته ومشتقاته، وبروز الولايات المتحدة كأقوى واغنى دولة في العالم، اتجهت انظار كل الدول في العالم، ولا سيما في العالم الثالث الذي كانت الاشتراكية اغرت معظم دوله بعد استقلالها الى النموذج الاميركي للاقتصاد وباتت الرأسمالية واقتصاد السوق الحر والمنافسة والخصخصة واندماج الشركات واصدار الاسهم والمضاربة بها في البورصة، نماذج شبه مقدسة، في نظر كل الحكومات والسياسيين، كما في نظر المنظمات والمؤسسات المالية الدولية. وجاءت العولمة لتتوج هذا الجموح الرأسمالي العالمي وتدفع بمن يعترض عليه او يرفضه الى هامش العالم والتاريخ.

وها هي فضائح «انرو» و«الورلدكوم» و«فيفاندي»، تدق ناقوس الخطر فوق رأس غلاة المنادين بالحرية الاقتصادية المطلقة والقائلين باقصاء الدولة كليا عن مراقبة الاقتصاد او حمايته او التدخل فيه. ولتؤكد النظريات القائلة بأن اعطاء رجال المال والاقتصاد والشركات والبورصة الحرية المطلقة في البيع والشراء والمضاربة والاندماج، بدون اي رقابة او ضبط او تطبيق لبعض القواعد القانونية والاخلاقية، انما يقود الى ما قاد اليه، مؤخرا، في الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية، اي الى الافلاس والتلاعب بالميزانية وسرقة اموال وحقوق ملايين المساهمين.

بطبيعة الحال ليست هذه الفضائح والنتائج السلبية للرأسمالية المطلقة الحرية، بكافية للقول بسقوط النظام الرأسمالي والليبرالية الاقتصادية، او المناداة بتفوق النظام الاقتصادي الاشتراكي عليه. فهذا الاقتصاد الاخير اثبت بعد قرن من التجارب في دول عديدة ان عيوبه وثغراته ونتائجه السلبية اكثر واخطر منها في النظام الرأسمالي. ناهيك بما تؤدي تطبيقاته اليه من حرمان الانسان من اغلى مقومات حياته، ونعني الحرية والمبادرة والطموح والأمل والدين.

ولكن هل تكفي نصائح الرئيس بوش وتدابيره الرقابية للحؤول دون وقوع ازمات مالية واقتصادية حادة وفضائح مخجلة، كتلك التي وقعت مؤخرا، وحملت الكثيرين على التساؤل عن صحة او متانة او عدالة او انسانية هذا النموذج الرأسمالي الاميركي والاوروبي الذي تتسابق كل دول العالم على تقليده، بما فيها الدول العربية؟

ثم ان هذه ليست الثغرة الوحيدة التي فتحت في قلعة النظام الاميركي الذي يطرح نفسه كأفضل نموذج للحكم وللاقتصاد بعد سقوط الانظمة الاشتراكية وبروز الولايات المتحدة كالدولة الاقوى والاغنى والمهيمنة على الحياة الدولية. فالقوانين الاستثنائية والتدابير الوقائية وكل ما صدر عن البيت الابيض والادارة الاميركية من تصريحات وبوادر، بعد 11 سبتمبر، انما جاءت متعارضة او ناقضة للنظام السياسي الديموقراطي الليبيرالي الذي رفعت الولايات المتحدة لواءه عاليا وراحت تدعو كل الدول الى الاقتداء به. فقول الرئيس بوش مثلا «من ليس معنا في الحرب على الارهاب هو ضدنا»، ليس فيه من منطق الديموقراطية شيء. والمحاكم الاستثنائية والتعديلات التي ادخلت على اصول المحاكمات الجزائية و«التوقيف على الشبهة» وتجميد اموال المشتبه بهم في المصارف والتوقيف بدون محاكمة، ليس فيها اي «احترام لحقوق الانسان وكرامته ولا من المساواة والعدالة والحرية». وماذا سيكون مصير الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الانسان في العالم، لو ان كل الدول اقتدت بالولايات المتحدة وفرضت مثل هذه القيود على ابنائها او زوارها؟ مما لا شك فيه هو ان حادثة او عملية 11 سبتمبر، اصابت الولايات المتحدة، شعبا وحكومة، بالذهول. وانه كان من الصعب جدا، ايا كان الرئيس او الادارة، السكوت عن هذا التحدي. ولكن السياسة او الخطط او التدابير التي نفذتها ـ ولا تزال ـ الادارة الاميركية، داخليا وخارجيا، قد لا تكون الافضل او الانجع للقضاء على الارهاب. واذا كانت معظم دول العالم بما فيها الدول الاوروبية، ابدت تحفظها على بعض جوانب هذه السياسة (رغم تأييدها لمبدأ مقاومة الارهاب)، فإن واشنطن، لسوء الحظ، ما زالت ماضية في خطتها التي لن تنجح في استئصال الارهاب والقضاء على قواعده واسبابه، بمقدار ما سوف تقود اليه من مضاعفات سلبية على الولايات المتحدة نفسها، وتزيد من عدد الناقمين عليها او المعارضين لسياستها. كذلك لن تجدي «النصائح الاخلاقية» وتعزيز اجهزة الرقابة او تشديد العقوبات في «فرملة» انزلاق الاقتصاد المطلق الحرية نحو الاحتكارات وتلاعب اصحاب الاسهم بالمصانع والشركات وتلاعب مديري الشركات واصحاب شركات المضاربة بالاسهم ومكاتب المحاسبة بأموال الناس. فالعولمة التي تجذب اقتصاد كل الدول اليها وتفرض نفسها على كل القطاعات، لن تسمح لاحد بالصمود في وجهها. وكل شيء يدل على ان الاقتصاد العالمي برمته متجه نحو الوقوع تحت قيادة واحدة مركزها نيويورك. ويشرف عليها، كي لا نقول يتحكم بها، عشرة او عشرون من «كبار» مديري المصارف والشركات الكبرى. ولا داعي للاشارة الى «هوية» هؤلاء.

عنوان المقال الذي نشرته جريدة «لوموند» الفرنسية، مؤخرا، عن هذه الفضائح المالية الكبرى كان: «استيقظ، يا آدم سميث... فلقد جن اتباعك». والمعروف ان آدم سميث هو المفكر الاقتصادي الذي تنسب اليه قواعد الاقتصاد الحر. والمقصود بهذا العنوان هو القول بأن دعاة الاقتصاد الحر فقدوا صوابهم وراحوا يسخرون كل حسنات وفرص الاقتصاد الحر ليتلاعبوا بأموال الناس، ويحققوا لعدد صغير من «ملوك المال»، ارباحا غير مشروعة.

ان تشديد الرقابة على ادارة الشركات وعلى اعمال المضاربة بالاسهم وشركات المحاسبة ومقاومة الاحتكار وحماية مصالح صغار المساهمين وغيرها من القوانين الوقائية او الزجرية، من شأنها لجم المتلاعبين والمراهنين، ولكن العولمة، من جهة أخرى، تهدد اقتصاد كل الدول، اذا لم تضبط وتتأنسن ولا يبقى الربح والمنافسة شعاريها الاوحدين.

اننا لا نشارك رأي بعض الذين رأوا في هذه الثغرات التي فتحت في جدران الديموقراطية الاميركية ونظامها الاقتصادي «بداية تفكك الامبراطورية الاميركية». ولكن هذا الجموح الاميركي في محاربة الارهاب وتقديم مقتضياته على كل الاعتبارات والقيم والمقاييس في العلاقات الدولية، بالاضافة الى هذه الفضائح المالية الكبيرة، والى موقف الولايات المتحدة السلبي من محكمة العدل الجزائية الدولية، ومن اتفاقيات حماية البيئة وغيرها من الانظمة والمؤسسات الدولية، انما يدل على ان الدور الذي تنتدب الولايات المتحدة نفسها له في العالم، بعد ان اصبحت الدولة الاكبر والاقوى والاغنى، ليس هو الدور الذي تنتظره شعوب العالم منها، بل انه في نهاية الامر، لن يخدم مصلحة الشعب الاميركي.

والمطلوب من الادارة الاميركية، الخروج من «كابوس» مقاومة الارهاب وممارسة الدور الذي ينتظره العالم منها. ذلك الذي لا يتوقف المسؤولون الاميركيون عن الاعلان عنه شفويا، وعن نقضه عمليا وواقعيا.